مغارة الميلاد اليوم

تتمركز أنشطة الأبحاث الأثرية الحديثة في بيت لحم في كنيسة الميلاد (أي كنيسة المهد). والحفائر الأثرية في الكنيسة الحالية كشفت عن الكنيسة الأثرية الأولى، وعن أجزاء من الأرضية المصنوعة من الفسيفساء الجميلة التي يمكن أن يراها مَنْ يزور الكنيسة حاليًا.

ومكان الميلاد محدَّد بكوَّة نصف دائرية من الرخام تحيط بنجمة لامعة من الفضة في الأرضية، والمكان مضاء بمجموعة من المصابيح المزخرفة الجميلة المعلقة في السقف. وتوجد ستائر وأقمشة مطرزة بالصور فوق المكان المقدس. وفي كوَّة أخرى قريبة يوجد مذود حجري يُعتقد أن الطفل يسوع قد وُضع بداخله.

أما المبنى الضخم الذي يستقبل زوار بيت لحم حاليًا، فقد أقامه الإمبراطور البيزنطي جستينيان (527 – 565م). وبالمقارنة مع المبنى الذي أقامه قسطنطين، فإننا نجد أنه قد تم إطالة الصالة الرئيسة، مما جعل شكل الكنيسة مستطيلًا بعد أن كانت مربعة. وقد تم توسيع صحن الكنيسة وتضييق الأجنحة الجانبية. وفي المناطق الشرقية أُضيفت شرقية دائرية كبيرة وجناحان آخران. وهناك عدة درجات تتدرج من الشمال والجنوب إلى المغارة المقدسة أسفل الكنيسة. ثم أن الأبواب ية الكبيرة التي ما زال الآلاف يمرون منها سنويًا، تعتبر من هذه الحِقْبَة أيضًا.

بيت لحم خلال العصر الإسلامي

وفي سنة 614م، هاجم الفرس بيت لحم، وهدموا مبانٍ كثيرة، ولكنهم تركوا كنيسة الميلاد. وربما كان ذلك نتيجة رؤية الجنود لصورة المجوس على الفسيفساء خارج الكنيسة وهم يلبسون ملابس فارسية. وربما نجت الكنيسة لنفس السبب عند الفتح العربي في القرن السابع الميلادي. وظلت بيت لحم تحت الحكم الإسلامي إلى أن استولى عليها الصليبيون سنة 1099م، وقد وصلت الكنيسة إلى ذروة جمالها واتساعها وأهميتها في هذه الحِقْبَة. وقد تم تزيينها بالرخام الأبيض واللآلىء والفسيفساء الجميلة.

وفي سنة 1187م، استعاد المسلمون المدينة، وظلوا يحكمونها، ما عدا فترة قصيرة في منتصف القرن الثالث عشر، حتى الحرب العالمية الأولى. وبعد انتهاء هذه الحرب وحتى وقتنا الحاضر، انتقل حكم المدينة من البريطانيين إلى الأردنيين ثم إلى الإسرائيليين، وأخيرًا إلى الفلسطينيين في مناطق الحكم الذاتي. وسكان المدينة حاليًا معظمهم من العرب، وكثير منهم من المسيحيين. واستمرت كنيسة الميلاد كمركز حيوي للعبادة المسيحية. ولم يحدث في أية كنيسة أخرى أن استمرت العبادة فيها طوال هذه القرون المتتابعة.

والتقليد الذي يقول إن الطفل يسوع وُلد في بيت لحم، تقليد قديم وثابت، ولا يوجد أي سبب معقول للشك في صحة هذا التقليد. وكذلك التقليد الذي يقول إن الطفل يسوع وُلد في مغارة للحيوانات، التي أصبحت فيمَا بعد هي كنيسة الميلاد؛ هو تقليد موثوق به. وكما أوضحنا من قبل، فإن الدليل على أن هذه الكنيسة هي فعلًا المكان الذي وُلد فيه الرب يسوع هو دليل يرجع إلى القرن الأول الميلادي. لذلك فإن تشييد الكنيسة فوق هذا المكان بالذات هو أمر موثوق به وحقيقي.

ويحدد الإنجيل الأشخاص الأوائل الذين قدموا العبادة للرب هناك بخلاف يوسف ومريم، وهم الرعاة الذين كانوا يسهرون على غنمهم خارج قرية بيت لحم (لو 2: 8-20). وهكذا تتأكد هذه الحقيقة أن كنيسة الميلاد هي أقدم مكان مسيحي للعبادة على وجه الأرض.

وبالرغم من ذلك، فإن التساؤل الذي يتبادر إلى ذهن أي زائر معاصر لمغارة بيت لحم هو: هل حقًا حدث كل ذلك هنا في هذا المكان عند هذه النجمة الفضية المحاطة بالرخام؟! وللإجابة على هذا التساؤل نقول: لا أحد يعرف بالتأكيد! ولكن أي إنسان يقف في هذا المكان يتولَّد لديه شعور جارف بأنه داخل هذه المغارة بالذات تمَّت أهم حادثة عرفتها البشرية، ألا وهي حادثة التجسُّد الإلهي.

وفي بيت لحم تمّت أصعب مضادة يمكن تصديقها، وهي أن أهم شخصية في التاريخ البشري وُلِدَت، لا في قصر أن في مكان مرموق، وإنما في مغارة للبهائم باردة ومظلمة. وبالنسبة لمريم العذراء ويوسف البار، حدثت اللحظة المقدسة قبل وصول الرعاة بقليل لينظروا الطفل المقمَّط المضجع في المذود، ويبدو أنهما ذهلا عندما تأملا يسوع الطفل ولم يُدركا بعد إرساليته للعالم.

إن إعلان الملائكة عن ميلاد الرب للرعاة لم يحدد لهم مغارة البهائم، ولكن قدَّم لهم معلومات عامة عن الطفل المولود وعن مكانه (لو 2: 11-20). فالطفل وُلِدَ في مدينة داود، وسوف يجدونه مقمطًا ومضجعًا في مذود. أما في إنجيل القديس متى فنجد أن نجمًا أرشد المجوس إلى الطفل المولود. وفي حالة الرعاة فإننا نفترض اعتيادهم على مثل هذه الأمور.

كما أننا نلاحظ أن القديس لوقا لم يهتم أن يدوِّن في إنجيله عن مكان المغارة، وإنما اهتم بأن يوضِّح أن ملاك الرب بشَّر الرعاة بميلاد المخلص وهو المسيح الرب، وأنه أظهر لهم علامته. فكان تأكيد القديس لوقا بالأكثر على المكان الذي وُضِع فيه الطفل بسبب الظروف المحيطة بولادته، وليس على مكان المغارة التي وُلد فيها. لأنه بالنسبة للقديس لوقا -وبحسب بشارة الملاك للرعاة-  فإن المذود كان يُعتبر علامة (لو 2: 12).

وعلامَ تدل هذه العلامة؟! إن هذا الأمر أصبح موضع نقاش بين الباحثين، فالبعض يعتقد أنها علامة على توفُّر الزاد والمؤونة، وشعب الله يمكن أن يأتوا إلى مذود حيث يعول الله شعبه، وليس في فندق كأنه غريب.

ويكتب الأب عن هذه العلامة فيصفها في كلمات دقيقة فيقول:

إن آية الميلاد التي وصفها الملاك للرعاة كعلامة مضمونة وأكيدة للتعرُّف على المخلص مسيح الرب، لا تزال هي بعينها آية الظهور الإلهي وآية الخلاص معًا: «طفلاً مُقمَّطًا مُضجعًا في مذود». فالله لا يتراءى إلا في عمق الاتضاع، والطفل المقمَّط المضجع في مذود هو هو الذي تقيَّد في يديه ووضعوه على الصليب، وهو هو الذي قال: “تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب» (متى 11: 29).

نحن مدعوون دائمًا للتعرُّف على المسيح، ولكن قلَّ مَنْ يجده، وقلَّ من يراه، لأننا نطلبه في غير المذود ونبحث عنه خارج الصليب؛ لذلك نضيِّع العمر باطلًا. ملاك الميلاد يستحثنا أن: «وُلد لكم اليوم … مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة: تجدون طفلًا مضجعًا في مذود… فولدت ابنها البكر وقمَّطته وأضجعته في المذود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل» (لوقا 2: 11، 7).

في بساطة الطفولة، نتعرف عليه. في قيود الضعف والتسليم والطاعة، يُشرق علينا لاهوته. في فقر الجسد وعوز الطبيعة، نرى مجده ونعاين قوته وسلطانه وملكه الأبدي. وحينما يصبح “ليس لنا مكان في المنزل” حينئذ نجده.

(الأب متى المسكين،”أعياد الظهور الإلهي”، الطبعة الثالثة 1992 (مزيدة)، ص 144)

إن ظروف ولادة الرب يسوع تتحدَّى كل ما يمكن أن يتوقعه العالم عن مجيء المخلص. فالله جاء في صورة طفل. ملك الملوك وُلد في أكثر الظروف تواضعًا ووضع في مذود من أجل خلاصنا.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

برتي المقاري
راهب في دير القديس الأنبا مقار الكبير  [ + مقالات ]