عندما كنت أشاهد قديمًا أفلام هولي وود سواء في المنزل أو السينما، دائمًا ما استرعى انتباهي تلك اللغة الخاصة جدًا التي كان يخاطب بها الأفارقة الأمريكيون بعضهم داخل سيناريو الفيلم، ولسان حالهم مثلًا كأنما يقول: إن كل الأفارقة في هذا العالم أخوة، ولم أفهم لذلك سببًا منطقيًا وجيهًا، إذ أن الجميع يشتركون في الجنسية والدين واللغة والأرض والمصلحة والهدف والحلم و.. و.. فلا تهم أميركا.. المهم نحن.. الأفارقة الأمريكيين!

وجدت أن الموضوع بذاته مكرر في مجتمعنا المصري نفسه، وفي داخل المواطنين المصريين المسيحيين (الشعب القبطي “كما التسمية في الة الأرثوذكسية المسيحية في الشرق”)، ونبرة “نحن” و”مثلنا” و”عنا”، وكل مترادفات الأنانية الفئوية تلك تهيمن على جميع المواضيع طوال الوقت، و”الألطف” من ذلك هو أنها تتم بمباركة من ال في مصر، كما لو أن الموضوع مسلم به فعلًا!

فلا تهم مصر.. المهم نحن.. المصريين المسيحيين!

ماذا سيحدث لنا؟

كانت تلك أول عبارة أسمعها مثلا من زميلة دراسة قبطية قديمة تزوجت وأنجبت واستكانت للبدانة والترهل بالذات الترهل الفكري، عندما باركت لها على نجاح ثورة 25 يناير في الإطاحة بالنظام ساعتها (أو رأس النظام) أو هكذا كما تصورت وقتها بكل براءة وتفاؤل.

وكانت تعني بسؤالها “الأقباط المسيحيين”، نفس ما سمعته من كثير من الفتيات المذعورات وقتها وجل اهتمامهم (رجوع الصبية من مبكرًا خوفًا من الشغب) أما مصر وشعبها واقتصادها ونظامها ومستقبلها فلا يهم.. مثلا!

المهم فقط مصالح ومخاوف “الجماعة” الكبيرة، أو الإخوة كما يسمي الأمريكيين الأفارقة في هولي وود أنفسهم، أو كما يحلو لكل أقلية في الدنيا أن تصنف نفسها وأعضاءها، أفارقة، يهود، أقباط، شيعة، مسلمين كندا. الخ.

حاولت أن أربط بهذا موقفًا قديمًا مررت به في إحدى محاضرات مركزًا شهيرًا للتعليم ما بعد الجامعي، منذ ربع قرن لتعلم تطبيقات الأوفيس، عندما حدث خلافًا بسيطًا جدًا بيني وأحد زملائي من الدارسين، فحاول المحاضر استيعابه بأن ربت على كتفي مهدئًا، وطالبني بالهدوء وأن استعيذ بالله وأن أسامح الزميل قائلًا لي: “أعتبره أخوك في الإسلام!”.

طبعا ابتسمت ولم أعقب ولم أدخل في جدال عقيم، كي لا يتفاقم الموضوع أكثر، خصوصًا إنني أعرف ماذا يقصد بشكلٍ قاطع، لكن تظل فكرة التمييز الإيجابي والسلبي مهيمنة على تفكير القطيع في وسط كثير من بلدان العالم، ومعها المظلومية وحوادث الاضطهاد وخطابات كراهيَة الآخر (بالذات في تلفزيون دولة ) التي تسربت على الشبكات الاجتماعية كلها وصنعت من قبضايات و”سرسجية” الدعوة، رموزا كبيرة للغشامة والعنصرية والتطرف، وهو ما يجعل الأقليات تنكفئ على نفسها أكثر، وتخاف أكثر، فيتأثر سلوكهم الشرائي بخوفهم، ويخططون ليلًا نهارًا للهجرة، حتى لو للعمل عبيد في مطاعم الوجبات الجاهزة وأجراء في خطوط إنتاج المصانع المجهولة، أو حتى خلف عجلات قيادة سيارات الأجرة التي تدار بتطبيقات الهاتف الذكي، نفس ذلك الهاتف الذكي الذين يصبون فيه ومنه جم غضبهم عل نفس الشبكات الاجتماعية من الأغلبية التي حركها أدعياء التشدد والإرهاب والعنف بل والبلطجة برعاية الحكومة في السبعينيات والثمانينيات بل والتسعينيات، فيمشي خلفهم قطيع الأغلبية مسحورًا بكلامهم الذي يمتلئ أيضا بمفردات الأنانية الفئوية التي تغازل هي الأخرى مصالح ومخاوف الفئة العددية الأكبر!

لأن لا شيء يهم، المهم نحن، الأغلبية!

ما لم يتم مواجهة فكرة الأنانية وتغليب المصلحة الجماعية الصغيرة أو الكبيرة على المصلحة الكلية، فالغرق هو النهاية الحتمية المنتظرة، وتلك المواجهة لن تحدث ما لم نواجه أنفسنا أولًا بها، ونقتنع بضرورة اجتنابها وتركها والإصرار على النظر للمصلحة الموحدة العليا، مهما بدا هذا الكلام مغرق في المثالية.
المخاوف والذعر والرعب تتنافى مع أبسط قواعد محتوى الحصص الدينية التي تلقنها الزميلة للأطفال بمدارس الأحد كل أسبوعين، مثلما تتنافى مع فكرة الأنا، حتى لو كانت “أنا” الجماعة التي أنتمي إليها.

لا يوجد أنا ومن بعدي الطوفان، يوجد نحن معا في مواجهة الطوفان.. لأن كل شيء يهم، والمهم نحن، وجميعا!

فترى هل يسمع أحد؟

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

الأنانية.. لا شيء يهم المهم نحن! 1
[ + مقالات ]