يحتفل العالم المسيحي في كل عام بذكرى ميلاد ربنا يسوع المسيح، ويحتفل الغرب بهذه الذكرى في يوم 25 ديسمبر، في حين تبدأ الكنيسة الشرقية احتفالات الميلاد من عشية يوم 6 يناير. ومهما يكُن موعد الاحتفال بهذه الذكرى، فإنه من المؤكد أنها تُعد أكثر المناسبات احتفالًا بها في العالم؛ وهي أيضًا الأكثر بهجة من كل ما عداها!
وإذا سألت عن وصفٍ لمشاهد الاحتفال بعيد الميلاد، فإن الغربيين يقدِّمون وصفًا مبنيًا على مفاهيم تقليدية تشكَّلت على مدى قرون من التصوير الفني لهذه الذكرى، نجده مُمثلًا في بطاقات الكريسماس والصور المرسومة، بل والنماذج المجسمة المأخوذة من واقع الحياة. ففي معظم الأحيان نجد أن المنظر التقليدي للميلاد يتم تصويره بطريقة حيَّة. فنجد تماثيل للعذراء مريم والطفل يسوع ويوسف الشيخ، والمجوس، وبعض الحيوانات، والرعاة، ومذود البقر، وفي غالب الأحوال نجد تجسيمًا للمغارة التي التجأت إليها العائلة المقدسة.
هذا المنظر التقليدي يتم تصويره منذ أجيال طويلة وله مكانة في قلوب الملايين من المسيحيين. وليس من المستغرب أن يكون هذا المشهد أكثر المشاهد المعتادة في تاريخ الفن. وفي الحقيقة، لم يصبح لمنظر مغارة الميلاد هذه الشعبية إلا منذ عام 1223م، عندما زين القديس فرنسيس الأسيزي (1) المذود في بلدة جريشيو Greccio بإيطاليا. ومنذ ذلك التاريخ بدأ كل جيل بتصوير الميلاد حسب خلفيته التقليدية بما يتناسب مع بيئته، شرقية كانت أم غربية. وقد تكون الظروف الحقيقية التي أحاطت بميلاد الرب يسوع مختلفة بعض الشيء عن هذه المناظر التقليدية التي يصوِّرها المؤمنون لهذه الذكرى.
هناك تقليد قديم يعطينا فكرة عن الظروف التي أحاطت بميلاد الرب يسوع، إذ يحدد هذا التقليد ميلاد المخلِّص في مغارة كبيرة كانت تستخدم كحظيرة للبهائم في بلدة بيت لحم. ويتضح من النص الوارد في (لوقا 2: 7) إن المسيح الطفل وُضع في مذود: «فولدت ابنها البكر وقمَّطته وأضجعته في المذود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل». ولم يأتِ هنا ذكر للمغارة، ولكن هذا ليس بمستبعد، لأن المغائر كانت دائمًا مسكنًا وملجأً للناس والبهائم في إسرائيل منذ أزمنة قديمة.
وهذا التقليد عن ميلاد الرب في المغارة يعود إلى ما قبل منتصف القرن الثاني. فقد ذكره القديس يوستينوس الشهيد في حواره مع تريفو اليهودي، وقد كُتِبَ هذا الحوار بعد منتصف القرن الثاني بقليل، وجاء فيه:
وعن ولادة الصبي في بيت لحم، لم يستطع يوسف أن يجد مكانًا لهم في القرية. لذلك فإنه أقام في مغارة بقرب القرية. وبينما هما هناك ولدت القديسة مريم الطفل يسوع ووضعته في مذود. وهنا وجده المجوس الذين حضروا من بلاد العرب.
(حوار مع تريفو اليهودي: 78: 5)
ويقول العلاَّمة أوريجانوس الإسكندري (أوائل القرن الثالث)، الذي كان في فلسطين منذ عام 215م وما بعدها؛ إن يسوع قد وُلد في مغارة. وفي كتابه “ضد كلسوس”، الذي كتبه عام 248 م، يقول كما لو أنه قد شاهد المغارة بنفسه:
إنه بالتوافق مع قصة الإنجيل عن الميلاد، فإننا نجد في بيت لحم المغارة حيث وُلد الرب، والمذود حيث قمطته العذراء ووضعته. وهذا المشهد يُحكى عنه الكثير في الأماكن المجاورة، حتى بين غير المؤمنين. ويُقال عنه الكثير في الأماكن المجاورة حتى بين غير المؤمنين. ويُقال عنه إنه في هذا الكهف وُلد يسوع الذي يعبده ويكرمه المسيحيون.
(أوريجانوس: ضد كلسس 1: 51)
ومن المثير أنه خلال حكم الإمبراطور هادريان (117 – 138م)، وبعد قمع ثورة بار كوخبا، وفي محاولة لإزالة أماكن المسيحيين المقدسة؛ تم تكريس بستان لأدونيس (إله الخصب). وبعد الثورة تم طرد اليهود من بيت لحم والأماكن المجاورة، وتم تسوية القرية بالأرض وتدنيس مكان الميلاد لأنه كان من المعتقد أن بيت لحم أصبحت كنيسة مسيحية. الذي يُدهش له أن هذا التصرُّف من جانب الرومان قد حدد وحفظ الموقع الذي يعتقد المسيحيون الأوائل أن الطفل يسوع قد وُلد فيه.
ويقول الأسقف يوسابيوس المؤرخ إن الإمبراطور قسطنطين ووالدته الملكة هيلانه قد أقاما كنيسة سنة 326م فوق هذه المغارة، وزيناها بعطايا ثمينة. والمبنى الذي أقاماه كان عبارة عن مبنى ثُماني الأضلاع، طول الضلع الواحد 26 قدمًا، وقد بُنِيَ فوق المغارة مباشرة، وتم تجهيز المغارة لإقامة الصلوات فيها. وقد أُلحق هذا المبنى الثُماني بالبازيليكا بعد ذلك. وكانت البازيليكا مربعة الشكل وطول ضلعها 87 قدمًا، وكانت مقسمة بواسطة أربع صفوف من الأعمدة، ويتكون كل صف من تسعة أعمدة، وكانت تستخدم لاجتماع المسيحيين.
وقد ذهب القديس جيروم سنة 386 م إلى بيت لحم وأقام هناك، وهو المشهور بترجمته للفولجاتا (وهي التَّرْجَمَةً اللاتينية للإنجيل). وفي خلال سنوات قليلة تجمَّع حوله مجمع من الرهبان مع القديسة باولا (إحدى ثَرِيَّات إيطاليا). وفي خلال هذه الفترة تم بناء ديرين ملحقين بالكنيسة: أحدهما للرهبان، والآخر للراهبات.
وواصل القديس جيروم دراساته في بيت لحم في الأربع والثلاثين سنة التالية من حياته. وكان يُترجم ويكتب ويعلِّم علم اللاهوت للرهبان، كما أنه فتح مدرسة لأطفال المناطق المجاورة للدير. وعاش القديس جيروم في مغارة بالقرب من مغارة الميلاد حتى وفاته سنة 420 م.
وفي سنة 1934م، قام و. هارفي W. Harvey بدراسة أثرية لكنيسة الميلاد. وقد برهن عمله على أن الكنيسة الحالية يعود تاريخها إلى أيام جوستنيان وليس قسطنطين الأول. وأوضح هارفي أن كنيسة الميلاد الحالية قد بُنيت جزئيًا على أساسات الكنيسة التي أقامها قسطنطين الكبير. ويبدو أن الكنيسة الأصلية قد تهدَّمت خلال ثورة السامريين سنة 529م، لأن هناك طبقة من المواد المحترقة وُجدت فوق الأرض الموزاييك.
(يتبع)
(1) وُلد في بلدة أسيزي بإيطاليا عام 1182م، وأسس الرهبنة الفرنسيسكانية التي اعترف بها البابا إينوسنت الثالث. وأسس أيضًا رهبنة للعذارى بمساعدة الأم كلارا عام 1213م، وتوفي عام 1226م.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- القداس الإلهي (١٢) تكملة الإجابة على سؤال: لماذا نتناول جسد الرب ودمه في سر الإفخارستيا؟ اللاهوت المسيحي في التقليد الشرقي لا يفصل بين طبيعة الله الواحد الثالوث الآب والابن والروح القدس وبين طبيعة نعمته. فالنعمة هي شخص الله ذاته. النعمة في المسيحية= اتحاد بالمسيح وسكنى الروح القدس في الإنسان: ”لأنه كما أن الجسد هو واحدٌ وله أعضاءٌ كثيرةٌ،......