لماذا ارتبط البخل ذهنيًا عند كثير من الناس في مصر وخارجها باليهود؟ البعض فعلا ممن احتك بهم بالخارج، خاصة في مجال صناعة الضيافة (أو فن الساندوتشات!) أخبرني أن الموضوع ليس أسطورة، إنما واقعي لحدٍ كبيرٍ، وأن أضفت عليه الدراما العربية -وقبلها الخيال الشعبي- الكثير!

قطعًا الموضوع لا علاقة له لا بالعقيدة ولا العهد القديم ولا باليهودية، ولا ينسحب على جميع اليهود، فالموضوع نسبي للغاية، ومؤكد أن بينهم كثيرين من المبذرين، شأن أفراد أي جماعة كبيرة في العالم.

لكن لماذا الوضع كذلك؟

أحيانا قد يبدو الربط النفسي ما بين الإحساس بالخوف وعدم الأمان والبخل قويًا ووثيقًا، ولعل أكثر عرق في العالم لديه هاجس أمني مخيف في أخر ألفية هو اليهودي، خاصة أنهم أكبر أقلية عددية موحدة في العالم، حيث يقدر تعداهم وفق بعض الإحصاءات الشرقية قبل 2010 بنحو 20 مليونًا أو أزيد قليلًا، إلا أن الأمر تخطاهم وأصاب الكثير من الأقوام أو الأقليات التي تعيش في ذعر أو هلع من الأكثرية التي تعيش وسطها بنفس الداء، حتى لو بشكل غير واعي ويفتقر للكثير من الأمان.

لعل تلك المقدمة تصلح لمناقشة شيء مسكوت عنه منذ القدم عندنا نحن أيضًا في مصر، إذ تقول بعض الافتراضات الاجتماعية الفردية الحديثة في مصر حاليًا -بشكل غير رسمي ولا مرجعي دقيق طبعا-  إن إثنين من كل خمسة أقباط في مصر لديهم الكثير من التحفظ والحرص المالي المبالغ فيه، بغض النظر عن ضعف أو قوة إمكاناتهم المادية أو مركزهم الاجتماعي، وهي نسبة غير قليلة، وكلنا نعرف كثير من المسيحيين بمصر، مما يشوب تصرفاتهم المالية كثير من الغرابة وقت الإنفاق (بالذات خارج أسوار الكنيسة) وبلا تفسير ظاهر.

وبالرغم أن آيات الكتاب المقدس صريحة جدًا في مثل هذا الأمر وتنص صراحة على أن البخل أسوأ صفة في الزوج (مثلا)، إلا أن كثير ممن يؤمنون بكلام الكتاب، أشحاء، ورغم أن هؤلاء الأشحاء -الذين قطعًا لا يمثلون الأغلبية- يحرصون وبشدة على الصوم القبطي الأرثوذكسي (أو ربما “التظاهر” بذلك) لأن الموضوع فعلًا وعلى المدى الطويل يوفر الكثير من النقود (وطبعًا ليس هذا هو هدف الصوم، ولا غالبية من يصومون من “البخلاء” طبعًا، حاشا لنا أن نقول ذلك، بل على العكس) وهو يكاد يكون الشيء الوحيد الذي يحرص عليه شخص يمارس علنا ودون شعور منه، خطيئة نفسية واجتماعية كبيرة ألا وهي “البخل” التي أصلها يعود للخوف والإحساس بعدم الأمان، وهو التفسير النفسي الأثير لدى الكثير من علماء النفس.

بالرغم من أن إيمان كثير من أفراد الأقليات الدينية في مثل مسيحيو مصر بأهمية التكافل وبالعطاء السخي منتشر جدًا، ولعل أبرز المشروعات الخيرية والتنموية كان خلفها في مصر أقباط، ومنها مشروع مستشفى السرطان 75375 أو مركز لعلاج القلب، ناهيك عن أن موضوع الكرم والسخاء أو حتى التبذير موضوع شخصي وخلافي بين الأفراد، وأكثر أشخاص مبذرين قابلتهم كانوا أقباطًا، وطبعًا وسط الأقباط ملايين الكرماء بلا شك.

ربما لأننا لا نملك أداة تمكننا من رصد مثل هذا الأمر دون الوقوع في فخ القولبة والتنميط بل أقول التنظير أيضًا، وطبعا الأمر يجعلك بعدها تنزلق في فخ الطائفية والعنصرية، والأخطر التنمر! لذا يفضل كثيرون عدم إثارة الموضوع من أساسه وابتلاع لسانهم!

الموضوع أيضا يخرج من فئة المسيحيين المصريين (بما فيهم المهاجرين) إلى كثير من المسلمين بل وحتى اللا دينيين، ليشمل أي إنسان فعلًا مذعور ويشعر بالثقة أو بالأمان، بشكل غير واعٍ، وليس كل من يخاف، يخاف من نفس الشيء، لكن كل من يخاف، يخاف بنفس التصرفات (تقريبًا).

اللافت أنك لو سألت غالبية البشر بشكل صادق ومتأني عن أسوأ شعور يمر به الإنسان، لأجاب معظمهم بشعور: الظلم، القهر، الخوف. فمَا بالك بمن يشعر بالثلاثة معًا؟

هذا هو ملخص نفسية القبطي التقليدي في مصر، حتى وإن انتبه البعض لعبثية الحرص المادي الزائد (إن وجدت المادة أصلًا في هذا الزمن وهذه المنطقة، وما أصعبها!) وحال مقاومتها على طريقة الهندسة العكسية، بالإنفاق الزائد كي ينفي لنفسه تهمة البخل، بل حتى أنها تتنافى مع أبسط قواعد الإيمان البسيط والثقة في من يحميك حقيقة ومن سيحمي نقودك وحياتك.

إلا أن الخوف هو الخوف، وينعكس على تصرفات الشخص من أول تعامله مع النادل في المقهى وحتى في صندوق الانتخابات، وكما ذكرت سابقًا عن نابوليان هيل (مغالبة الشيطان)، فحرب حرب فكر، والفكرة أساس لعادة، والعادة تنتج فعلا والأفعال تصنع مصير الإنسان.

كثير منا في هذا العصر لا تنقصهم الشجاعة قدر ما ينقصهم الثقة بأنفسهم وبمن فعلا يقودهم ويحميهم، ويتأثرون بآراء وأفكار قادة دينيين للأسف صدروا لهم الخوف والجبن، والبعض صدر لهم بشكل غير واعي ولا مباشر، قَبُول المداهنة والموالسة للأخر (خاصة لو كان بيده ما بيده) كجزء من تكوين الشخص الخائف، الخائف على نقوده وحياته وعلى كل شيء ومن كل شيء.

ربما لنعيش حقا في هذه الأرض سواء بمصر أو خارجها، نحتاج إلى جوال من حبوب الثقة وملعقتين من حبوب الشجاعة، كما ظهروا في رواية “” ليوسف السباعي.

لكننا للأسف لا نجد “عطار” يبيعها!

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

عن الأقليات والخوف وأشياء أخرى 1
[ + مقالات ]