المقال رقم 9 من 12 في سلسلة القداس الإلهي
شرحنا قبلًا، كيف أن تدبير الله في خلق الإنسان ثم خلاص الإنسان، أن الله يُريد أن يُعلن ذاته للإنسان لكي يدخل في شركة حياة شخصية معه. هذا الإعلان هو مضمون ”العهد القديم“ وكماله ”العهد الجديد“.

فإن كان سر التجسد الإلهي للمسيح ابن الله هو لإظهار وإعلان الله الواحد الثالوث لنا “هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الأله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته“. فلماذا سر ال وعلاقته بالتجسد الإلهي؟

هذا الحدث كان يوم الخميس الكبير الذي يسبق صلب المسيح يوم الجمعة. و دُعِيَ “خميس العهد“… عهد إعلان الله لشخصه وحضوره الدائم معنا. كانت قمة هذا الإعلان والحضور في بيت لحم حيث وُلِدَ المسيح وظهر الله في الجسد ”و كلمة الله صار جسدًا وحل بيننا“. وأحداث ”خميس العهد“ كانت استمرارًا – وليس تكرارًا – لظهور الله في الجسد في بيت لحم. فالرب حاضرٌ دائمًا “ودُعِيً اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا“ وحضوره يفوق الزمن “أمس واليوم وإلى الأبد“.

فالمسيح -له المجد- لم يتجسد في بيت لحم لكي يتخلى عن الجسد بعد ذلك. فالتجسد الإلهي حقيقة دائمة أبدية. سفر الرؤيا يصف الرب في السماء ”قائم كأنه مذبوح”. فقد دخل الرب بجسدنا إلى مجده الأبدي في السماء.

ولأن لاهوت الرب ليس عنصرًا مشتركًا بيننا وبينه، إذ هو نفس جوهر الآب الذي يفوق الإدراك والشعور، بالتالي فإن اللاهوت غريبٌ عنا ولا ينتمي إلى عالمنا الإنساني. إلا أن الرب ينقل إلينا حياته الأبدية من خلال ناسوته الذي لبسه واتحد به في التجسد فصار المجال الذي من خلاله تكون للرب شركة حياة مع الإنسان يعلن فيها محبته. إن اتحاد لاهوت ابن الله بناسوت الإنسان هو إعلان قَبُول الله للإنسان بحالته كما هو بعد لكي يشفيه من موت الخطية “ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا”.

لقد أدرك الفكر اللاهوتي الغربي بعد أن تحرر من حدة الاتجاه العقلي الفلسفي أن التجسد الإلهي هو حضور دائم للمسيح في حياة الكنيسة وفي الإفخارستيا. لذلك أعادوا نظرتهم في معاني كلمات الرب عن الإفخارستيا “هذا اصنعوه لذكري”. إلا أن الكتب الية العربية لم تستفد بعد من التطور العالمي الذي حدث في اللاهوت البروتستانتي.

كان الله يستعلن نفسه خلال أحداث العهد القديم ويدعو الإنسان إلى شركة معه بشكل خاص من خلال شعب الله المختار بني إسرائيل. وعقب كل ما كان يجري من الأحداث الاستعلانية لذات الله، كان الله يحرص على استمرار هذا الاستعلان من خلال بناء مذبح للرب هناك. فنذكر كيف دَعى الرب إبراهيم أب الآباء لكي يُظهِر له ذاته ويُعلِن له شخصه ويقيم معه عهده ثم بني مذبحًا للرب “وظهر الرب لإبرام … فبني هناك مذبحًا للرب” (تكوين ١).

وفي العهد الجديد أظهر الله ذاته لنا متجسدًا، و(بنى مذبحه) يوم الخميس بأن أقام مائدة الافخارستيا بعد العشاء “يهيئ لي الرب مائدة تجاه مضايقيي” ليكون حضور تجسده في بيت لحم مستمرًا بجسده ودمه في سر مجيد لا يُنطَق به -الإفخارستيا- عهدًا أبديًا يقطعه معنا بأن يكون معنا ونتحد به في سر التناول من جسده ودمه.

لذلك فإن كلمة/ فعل ”ظهور.. يَظهَر.. يُظهِر“ تتكرر كثيرًا في القداس الباسيلي -أقدم القداسات- وفيه لا تختلف عبارات الصلاة عما جاء به الكتاب المقدس عن ظهور الله بالجسد وعلاقة هذا الظهور بسر الإفخارستيا الذي تحتفل به الكنيسة: ”(الرب) خبز الحياة الذي نزل لنا من السماء وهب الحياة للعالم. وأنتِ أيضا يا مريم حملتِ في بطنك المن العقلي الذي أتى من الآب، ولدته بغير دنس وأعطانا جسده ودمه الكريم فحيينا إلى الأبد. يقوم حَولَكَ (يا رب) اليم والسرافيم ولا يستطيعون أن ينظروكَ. ونحن ننظركَ (يا رب) على المذبح ونتناول من جسدك ودمك الكريم” (لحن قداس قديم جدًا).

“أظهِر في نفوس عبيدك مجد أسرارك الخفية”

(صلاة قسمة كيرلسي)

إن الإفخارستيا هي حضور المسيح الحقيقي وسط شعبه في القداس الإلهي الذي أوصانا به الرب “هذا أصنعوه لذكري“. فالإفخارستيا ليست ذكرى من طرف واحد هو نحن، لشخص حبيب رحل وغاب عنا هو المسيح. إنما الذكرى هي حضور المسيح نفسه صاحب الحدث.

إن المأساة الحقيقية فيما وصل إليه الفكر اللاهوتي في العصر الوسيط في أوروبا هو الفصل بين الحدث Event والشخص الذي تمَّم الحدث. فصارت الأحداث تُفهم ويُحتَفل بها بدون الشخص، بينما الكتاب يقول أن ”المسيح (الشخص) هو روح النبوة (الحدث)“. فالخلاص قد تمَّ في المسيح، لذلك فإن كل أحداث الخلاص من إفخارستيا وصليب وقيامة مستحيل فصلها عن حضور شخص المسيح إذ أن الحدث والشخص يصبحان حقيقة واحدة. فلا يكون هناك حدث ”الإفخارستيا“ دون حضور الشخص ”المسيح“. وما الطقوس الكنسية إلا المدخل السري للحدث لكي نصل إلى الشخص نفسه.

وكما رأينا في الشرح أعلاه كيف كانت الذكرى في الكتاب المقدس هي احتفال طقسي ومذبح يمثل حضور إلهي يتم فيه عطاء إلهي، مثلما كان عبور البحر الأحمر لشعب الله ”تذكارًا دائمًا” (خروج ١٢) ذكرى ليست ذهنية بل واقع ملموس مستمر في حياة الشعب اليومية. لم يكن الشعب يحتفل بتاريخ نظري فلكلوري حدث في الماضي لا علاقة له بالواقع اليومي، بل كان الشعب يحتفل بوجود حقيقي للرب وسط الجماعة من خلال تابوت عهد الرب الموجود وسط المحلَّة حيثما يرتحلون ويحلُّون دون أن يفكروا لحظة واحدة أن هناك فرق بين حضور الله و تابوت عهده وسطهم.

إن حضور الرب الفعلي في سر الإفخارستيا بصلاة القداس الإلهي هو استمرار لظهور الله في سر التجسد الإلهي دون فصل بين أحداث الخلاص لأن المسيح واحد لا ينقسم. فنحن نعيش حضور الرب معنا في بيت لحم وخميس العهد شاكرين قائلين “وفي أخر الأيام ظَهَرتَ لنا نحن الجلوس في الظلمة بابنك الوحيد ..“. بل وتلاحظ أيضًا عزيزي القارئ في نهاية أوشية الاجتماعات وقبل قانون الإيمان أننا نصلي نفس الصلاة التي كان يصليها موسى النبي عندما يتقدم تابوت عهد الرب أمام شعب الله في ارتحاله نحو الأرض التي أقسم بها الرب لإبراهيم فنقول “قم أيها الرب وليتفرق جميع أعدائك.. وأما شعبك فليكن بالبركة…” (سفر العدد ١٠).

والسُبح لله..

بقلم د. رءوف إدوارد مع الاستعانة بكتابات للعلامة د. .

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: القداس الإلهي[الجزء السابق] 🠼 القداس الإلهي (۸)[الجزء التالي] 🠼 القداس الإلهي (١٠)
القداس الإلهي (٩) 1
[ + مقالات ]