«أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ».
(سفر ميخا 5: 2)
حقًا، إن إلهنا إله عجائب، إن وُزِنَت اختياراته، حسب موازين العالم، تكون هي بلا شك أفضل الاختيارات. إذ كيف هذا الأمر العجيب أن يولَد ملك المجد لأبوين فقيرين، وفي مذود متواضع، وفي بلدة غير مشهورة تسمى باللغة العبرية “بيت لحم” أي “بيت الخبز”!! وكانت أسماء الأماكن التي تبدأ بكلمة “بيت” منتشرة في الشرق في الزمن القديم، ونجدها منتشرة في الكتابات التي وصلتنا باللغة المصرية القديمة، ولغة أوغاريت وهي لغة بلدة رأس شمرا بسوريا (وهي اللغة التي تطورت عنها اللغة العبرية).
بيت لحم في التاريخ
يخبرنا سفر أخبار الأيام الأول 2: 50 و51، أن الذي أسس هذه المدينة هو أحد أبناء كالب ابن حَصْرون، واسمه سَلْما، وهو ابن حور بن كالب بن حصرون من امرأته أفراتة، ومن هنا جاءت التسمية. والاكتشافات الأثرية تدلنا أن القرية ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وتذكر أن الموقع الذي يحيط بكنيسة المهد هو الموقع الذي كانت تقع فيه هذه البلدة.
وأول تأريخ للمدينة يرجع إلى القرن الرابع عشر ق. م في رسائل تل العمارنة، التي تذكر أن أمير مدينة أورشليم “عبدوهيبا”، تذمر من أن “بيت لحمي” قد صعدت على عبيرو (أي حاربت شعب أو قبيلة أخرى تدعى عبيرو).
بيت لحم في الكتاب المقدس
تقع بيت لحم الحالية على بعد ستة أميال جَنُوب غرب أورشليم، قرب الطريق الرئيس الذي يربط بين حبرون والنقب. والقرية تقع على مرتفع حوالي 690 مترًا فوق سطح البحر، مما جعلها محمية طبيعية من الأعداء، ولذا اختارها الفلسطينيون في زمن داود النبي كمدينة محصنة (2صم 23: 14).
ويصف سفر راعوث الأسرة التي انتسبت إليها راعوث الموآبية بأنهم: “أفراتيون من بيت لحم يهوذا” (راعوث 1: 2). والملك داود يوصف في سفر صموئيل الأول 17: 12 بأنه: “ابن ذلك الرجل الأفراتي من بيت لحم يهوذا”، وأيضًا يقول: “ابن عبدك يسَّى البيتلحمي” (1صم 17: 58).
وقد جنَّد الملك شاول رجالًا للحرب من بيت لحم (بما فيهم أولاد يسَّى البيتلحمي)، وذلك في حروبه مع الفلسطينيين (1صم 17: 13). وهناك مَسَحَ صموئيل النبي داود ملكًا (1صم 16: 1-12). ثم استولى الفلسطينيون على بيت لحم، واستردها داود مرة أخرى وجعلها تابعة لأورشليم. وقد حصنها الملك رَحُبعام في أيام ملكه (2أي 11: 6). وفيما بعد السبي يذكر سفر عزرا (2: 21) ونحميا (7: 26) عودة أكثر من مئة رجل من سكان بيت لحم من السبي في القرن الخامس قبل الميلاد.
وكان لاختيار داود مدينة أورشليم كعاصمة للبلاد أكبر الأثر في تقليل شهرة بيت لحم، إذ قلَّت شهرتها أكثر بعد انتهاء حكم داود. فميخا النبي لا يذكر عنها أكثر من أنها قرية صغيرة معروفة فقط بسبب أن بها عشيرة داود؛ ولكن منها يخرج الذي يكون متسلِّطًا على إسرائيل ومخارجه منذ أيام الأزل:
«أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ».
(سفر ميخا 5: 2)
وأهمية بيت لحم الأساسية في العهد القديم تكمن في علاقتها بالملك داود وارتباطها بالمسيا والمدبِّر الذي سيرعى شعب إسرائيل. فسفر القضاة ينتهي في إصحاحاته الأخيرة بالحديث عن أحوال الشعب هناك، ثم يليه سفر راعوث. فراعوث -كما قلنا- المذكورة في سلسلة أنساب الرب يسوع (مت 1: 5)، عاشت في بيت لحم مع زوجها الثاني بوعز، حيث ينتهي أيضًا سفر راعوث بالكلمات: «وبوعز ولد عوبيد، وعوبيد ولد يسَّى، ويسَّى ولد داود» (راعوث 4: 21 و22)، وداود هو الذي وُلد في بيت لحم، ومُسِحَ في بيت لحم أيضًا.
ويذكر كلٌّ من إنجيل متى (2: 1) وإنجيل لوقا (2: 4-7)، بيت لحم يهوذا كموضع ميلاد يسوع. فيشير القديس لوقا إلى بيت لحم كمدينة ملوكية، ويذكر سلسلة النسب الملوكي الخاص بالرب يسوع. وكلٌّ من الإنجيليين يذكر موضع الميلاد، لكي يشير إلى ارتباطه بالنبوة الخاصة بميلاد المسيَّا. ففي إنجيل متى يذكر اسم بيت لحم في قصة المجوس الذين يبحثون عن ملك اليهود، الطفل المولود حديثًا من نسل داود في المدينة الملوكية، هذا الملك الذي سيجلب السلام للأمم (ميخا 4: 1-5).
وأيضًا يقتبس إنجيل متى من نبوَّة ميخا (2:5) نبوته عن المدبِّر الذي سيرعى شعب إسرائيل، وهو أزليٌّ، إذ: «مخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل». وهو لذلك يُظهر أن يسوع هو المكمِّل لهذه النبوَّة المسيانيَّة عن المدبِّر الآتي من نسل داود. وبالطبع فقد فاق تجسُّد ابن الله كل الاشتياقات إلى مدبِّر ماسيَّاني من بين الشعب اليهودي. لقد أسَّس الله ملكوته بواسطة الرب يسوع المسيا ملك السلام، مولودًا ملكًا؛ ولكنه في تواضع ميلاده، وُلد كخادم.
كنيسة المهد في بيت لحم
يعتبر الموضع الذي ولد فيه الرب يسوع من أشهر الأماكن الأثرية في مدينة بيت لحم. وقد قامت الملكة هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين ببناء كنيسة المهد عام 328-330م، فوق الموضع الذي وُلد فيه الرب يسوع. وفي عام 1934، قام العالم وليم هارفي بحفائر داخل الكنيسة، فوجد تحت أرضيتها أجزاء من أرضية بالموزايكو الملوَّن ترجع إلى عصر الكنيسة التي بنتها الملكة هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين. وقد وُجدت رسوم لزهور وثمار وطيور، ولم توجد رسوم دينية لأن هذه الأرضية كانت معدَّة للمشي عليها.
وتحت أرضية صحن الكنيسة في الجانب الشرقي منها بعض الدرجات إلى أسفل، إلى موضع مغارة الميلاد، وهي تقع على عمق ستة أمتار تحت أرضية الكنيسة. وفي هذه المغارة في الجانب الشرقي منها يوجد انحناء إلى داخل الحائط (حنية niche)، وعلى أرضية هذه الحنية المبطنة بالمرمر مثبَّت نجمة من الفضة الخالصة، مضاء حولها ستة عشر شورية مصنوعة من الفضة، وهي محاطة بكتابة باللغة اللاتينية تُعلن أعظم حدث في كل التاريخ:
“هنا وُلِدَ يسوع المسيح من العذراء مريم”.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟