الحضور الإلهي في الجسد دخـول بالأبديـة فوق البُعـد الزمـاني والمكـاني للإنسان.
خلق الله الإنسان ووضعه في جنة عدن / فردوس الله ليكون قريبًا منه زمانيًا ومكانيًا، فلم تكن هناك حدود فاصلة من الزمان والمكان تفصـل الإنسـان عـن الله. وعنـدما اغـترب وابتعـد عـن الله ظهرت الحدود الفاصلة -زمنيًا ومكانيًا- النابعة من الخطية داخل الإنسان. وإضافةً إلى البعد الداخلي صار هناك بعدًا جغرافيًا، فتصور الإنسان أنه ممكن أن يختبئ بعيدًا عن الله كما في قصـة اختباء آدم وحواء خلف شجر الجنة، وتكررت محـاولات الاختبـاء عــن الله في العهد القديم.
بتغرَّب آدم عن الله أصل الحياة، دخله الموت نتيجة اختياره، وملأه الخوف من سطوة الزمن وعذبه الرعب من انقضاء العمر. وتوالت ردود فعل قلق الإنسان سواء من رغبة محمومة بحب الاقتناء والتخوف من الحسد، والمبالغة في الغضب من الآخرين كخط دفاع ضد الخطر على وجوده، وسادت الكراهيَة والعداوة بين البشر.
خلاصة القول إن السقوط أحدث لوثة في تكوين الإنسان، والموت أنشأ شعورًا بالخوف الشديد من انقضاء العمر، وتزايد الشك المريض في خيرية الحياة حوله، وتزعزعت ثقة الإنسان وانحصر في ذاته، بل وكثيرًا ما فقد الثقة في ذاته أيضًا، و أدى الخوف من مصير الموت والعدم إلى رغبة حائرة عند الإنسان ليتيقن من أصل حياته وكيانه ويبحث داخله عن معنى وجوده وغايته.
لقد كانت الإنسانية تعتمد بشكل كبير على الفلسفة اليونانية التي تؤمن بوجود للحياة الفكرية والروحية وأن الوجود الروحي أسمى وأعظم وأكثر يقينًا من الحياة المادية أو المنظورة التي هي مجرد ظلال. ثم جاءت الفلسفة الأوربية في عصر النهضة بكل ماهو معارض للفلسفة اليونانية فاهتز العقل البشري واختلَّت مقاييسه منذ القرن الخامس عشر، ووصل إلى ذروته بعد ذلك لاسيما بظهور العلوم التجريبية وميلاد الفلسفة الحديثة، فالمدرسة اليونانية تعد الوصول إلى الحق أو إلى الله هو غاية الإنسان العظمى، في حين المدرسة الأوربية الحديثة هدفها اكتشاف الإنسان والكون والمادة.
ولكن تجلَّت محبة الله ومراحمه بافتقاد الإنسان في حيرته ومحنته بخلاص المسيح، فمَا يميز المسيحية هو دخـول الأبديـة في مجـال الـزمن. فالمسيح الإله خالق كل الأشياء وخالق الـدهور والأزمنـة صـار إنسانًا، فبالتجسـد الإلهي تلاشى الحاجز الزمني والمكاني لأن الله هــو الــذي جــاء إلينــا في مــلء الزمــان (والمكان).
حـلَّ الله في الزمـان عنـدما تجسـد الابن وعنـدما حـلَّ الروح القدس في العنصرة حيث امتلأ الجميـع مـن الله وصـار الله ساكنًا كـلَ إنسـانٍ في كل زمان ومكان يؤمن بالمسيح، فلم يعد الزمن في مفهوم المسيحية والإنجيل وخبرة الإنسان المسيحي هو الزمن بالمعـنى السـائد من تعاقب السـنوات والأيام والسـاعات.
قال المســــيح في بَدْء كرازته:
”وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ وَيَقُولُ: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ»“
(إنجيل مرقس 1: 14، 15)
عقـَّبَ القـديس بولس على هـذه النقطـة:
”فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ،الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ“
(رسالة بولس إلى كولوسي 2: 16، 17)
هنـا يعلـن القـديس بـولس إلغـاء العيـد والهـلال والسـبت والأكـل والشـرب، أي إلغـاء الـزمن من جهة علاقة الله بنا في العهد الجديد، ومِن جهة المكان أيضًا قال المسيح للسامرية: ”لا في أورشليم ولا في هذا الجبل يسجدون للآب“.
ويقـــول ق. بولس الرســـول :
“فَلاَ تَخْجَلْ بِشَهَادَةِ رَبِّنَا، وَلاَ بِي أَنَا أَسِيرَهُ، بَلِ اشْتَرِكْ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ لأَجْلِ الإِنْجِيلِ بِحَسَبِ قُوَّةِ اللهِ، الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ“
(رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس 1: 8، 9)
فالنعمة قد أُعطيت لنا قبــل الأزمنـة الأزليــة، وقَبــل أن يتكـوَّن الــزمن المخلـوق، وقبــل أن ُتخلَــق الأرض، إذن، كل ما يحدث في الزمـان الحاضـر، لـيس إلا دخولًا أبديًا لله في التـاريخ والزمان والمكان لأن النعمة قد أُعطيت بالفعل قبل الزمن، ومـا الزمن المخلوق والأوقــات والأيام إلا مجال دعــوة الإنســان إلى مــا هــو قبــل الزمــان؛ لأن الإنســان عائــدٌ إلى الأبــد الذي أتى منه، فهناك وعدٌ بأن نعود إلى الأزل، وهناك أيضًا موعد لأن الزمان سينقضي.
فلقد تلاشي البعـد الزمـاني من حساب الإنسان المسيحي لأن الله أتى إلينا في ابنه يسوع المسيح، وحسب تعبير الرسول بولس جاء إلينا ”في ملء الزمان“ (غلاطية 4: 4). لقــد جــاء الابــن وتجســد، وهــذا يعــني أنــه وصــل بالزمــان إلى غايتــه، أي خــلاص الإنســـان، أما عن تلاشِي البعـد المكـاني فهو يظهر أيضًا في تعبــيرات العهـــدالجديــد نفســه مثـــل: ”حلــول مــلء اللاهـــوت جسديًا“ (كو 1: 19)، وأن الابن المتجسد هو ”ملء الذي يملأ الكل“ (أف 1: 23)، و”أننا أخذنا منه نعمـةً عوضـاً عـن نعمـٍة؛ لأنـه هـو مـلء النعمـة“ (يـو 1: 14- 18).
وفي العهد القديم ظهر الله في أمـاكن كثـيرة مـنذ تجليـه عنـد بلوطــات ممــرا وعلـــى جبــل ســيناء وفي الهيكـــل، وكانــت هــذه الظهـــورات هي بمثابــة دخـــول الله للمكان. كـــل هـــذه الظهـــورات كانـــت تؤكـــد أن الله ســـوف يأتي إلى الإنســـان حيـــث هـــو.
إن ظهور الله في الجسد في المسيح يسوع ربنا واستخدام الوحي لتعبيرات ملء الزمان وملء المكان يرفع من الإنسان أي وهم بعدم حضور الله ويؤكد للإنسان أنه لا توجد حدود فاصلة نابعة من الخطية بعد أن هدمها المسيح أمام توبة الإنسان.
فالمســيح بكــل وضــوح هــو الحضــور الإلهــي في الجســد، أنــه نــزل مــن الســماء، وجاء في الجسـد. فهـذه الأفعـال تؤكـد لنـا نحـن البعيـدين عـن الله، أن المصـالحة قـد تمَّـت، وأن الحواجز التي كانت تفصلنا عن الله قد رُفِعت بسبب مجيء الابن وتجسده. إذن، البُعد Dimension الزماني والمكاني وَهْـــم، يســـقط تمامًا عنــدما تمتلـــئ الـــنفس مـــن الحضـــور الإلهي.
ولقد حرص رب المجد أن يكون حضوره الإلهي فوق البعد الزماني والمكاني للإنسان حقيقة دهرية ماثلة أمام الإنسان وفي كيانه، فقال له المجد ”ها أنا معكم كل الأيام وإلي أنقضاء الدهر“ ثم صحب قوله بفعله عندما أسَّس سر الإفخارستيا بيديه الطاهرتين ليلة الخميس الكبير وقبل صلبه يوم الجمعة العظيمة. فقدم الرب جسده ودمه من وراء الزمن وفوق الزمن وبعد الزمن تأكيدًا لاختراق الحياة الأبدية للزمان والمكان. فقول الرب ”هذا أصنعوه لذكري“ إنما جَمَعَ الأزل والأبد في كفه وهو القدير، وقدَّمه للإنسان ليحياه كل يوم. فالرب هو ”شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله“.
إن شجرة الحياة في سفر التكوين منذ البَدْء كانت هي غاية الخلق نفسه لكي يأكل منها آدم و”يحيا إلى الأبد“، وعندما تحقق هذا على يدي يسوع المسيح ”آدم الثاني“، خَتْم الوحي المقدس بما بدأ به في سفر التكوين وسطَّر قولته الخالدة في أخر سفر الرؤيا ”مَن يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله“.
وأوضح الرب جليًا أن سر الإفخارستيا -أي اتحاد الإنسان ببشرية المسيح الله الظاهر في الجسد- هو السر المكتوم منذ الدهور الذي يدخل بالإنسان إلى الأبد ”أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي“. بل ومنذ الآن في الزمان الحاضر هو سبق فِعلي لارتفاع الإنسان فوق السطوة الزائفة لحدود الزمان والمكان التي فرضها السقوط لأن الإفخارستيا هي سر كينونة الإنسان في بشرية الله الذي ظهر في الجسد. ”مَن يأكلني يكون فيَّ وأنا أكون فيه… من يأكلني يحيا بي… من يأكلني يحيا إلى الأبد“.
فعلاقتنا بالمسيح هي علاقة سرّية، تُفهَم في إطار اللاهوت، ولا يمكن أن تُفسَّر بشكل فلسفي، والخلاص المسيحي هو الاشتراك في حياة الله أي الرجوع بالإنسان إلى أصل نشأته ووجوده الذي يستمد حركاته وحياته من الله. فالمســيحية ليســت ديانــة قائمــة علــى نصــوص أو تفاســير بــل علــى علاقــة أبدية بالرغم من أنها في الزمن والمكان، أي أرضية سماوية بين الله والإنسان. والمسيحية لا تقف عند حد معـين أو تاريـخ معـين فتعتـبره أنه عصرها الذهبي، فكل عصورها ذهبية بالمسيح في قلوب المؤمنين.
ولكن من جانب آخر نقول إن الأسرار الكنسية لا تتمشي مع انحصار الإنسان في ذاته أصل ومنشأ له منذ السقوط، وقد كانت قصة برج بابل تعبيرًا عن ذلك في العهد القديم. فالأسرار ارتقاء فوق الحواس مثلما أيضًا الإيمان بالله ووجود النفس وخلود الروح والحياة بعد الموت. هذه كلها أمور لا تُرى ولا يمكن إخضاعها لعلم المختبرات والمعامل. ومن هنا نشأت معضلة الإنسان في أنه لا يرضي بالسر ”Mystry”، أي بالأمـور الإلهيـة الخفيـَّة الـــتي لا تُــدرَك بالحـــواس ولكنها تُــدرَك بخبرة اكتشاف الحيـاة مـع الله من خلال الإعــــلان الإلهــــي في الحياة الباطنية مع الله في الصلوات والأسرار الكنسية وكلمات الوحي المقدس في كلمة الإنجيل.
ولقد واكبت حركة الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر، ميلاد الفلسفة الأوربية وتأثرت بما ساد أوروبا من أفكار واتجاهات إنسانية واجتماعية وفلسفية. فجاءت حركة الإصلاح ثمرة لحركة النهضة الأوربية، وأصبح اللاهوت البروتستانتي عقلانيًا شديد الولاء للمنهج التجريبي وللفلسفة الحديثة التي أثّرت في صياغة العديد من النظريات اللاهوتية الغربية بعد القرن الخامس عشر.
ولكن بعد حوالي أربعة قرون من الحوار العنيف تارَة والعلمي تارَة أخرى اكتشف البروتستانت هذه الحقيقة (راجع كتاب العالم البروتستانتي إميل برونر بعنوان الوسيط ” The Mediator “). فلم يعد هناك جدل فيمَا بعد حول حقيقة حضور المسيح في سر الإفخارستيا وإنما الجدل الآن حول تفسير هذا الحضور.
والسُبح لله
بقلم د. رءوف إدوارد مع الاستعانة بكتابات للعلامة د. جورج حبيب بباوي
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟