نقلا بتصرف عن حبيب المسيح العلامة الدكتور جورج حبيب بباوي:
إن القداس الإلهي هو بكل يقين حضور دائم وليس تكراراً لمراحل حياة المسيح بما فيها التجسد والجلجثة والقبر وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب “ونحن فيه”.
إن تجسد المسيح هو أساس في الاحتفال بسر الإفخارستيا حيث الله “حل بيننا” على المذبح، وهو الذي جعل جسده خبزاً سمائياً يؤكل وهو الذي فتح جنبه ليمزج لنا منها كأساً:
“مبارك أنت أيها المسيح إلهنا مخلص كنيستك.. مِن قِبل تجسدك أعددت لنا خبزاً سماوياً.. جسدك المقدس.. مزجت لنا كأساً من كرمة حقيقية التي هي جنبك الإلهي غير الدنس”.
(القداس الغريغوري)
والصلاة السرية في أوشية التقدمة تُعلن أن المسيح”هو الخبز الحي الذي نزل من السماء”. فهذا سبب وجودنا في الهيكل، لقد جاء المسيح إلينا وهو في وسطنا الآن.
قال الرب يسوع المسيح لتلاميذه عن وليمة العشاء الرباني الإفخارستيا “إني لا أكل من نتاج الكرمة هذا حتى آكله معكم جديداً في ملكوت أبي“. لذلك فإن صلوات القداس الإلهي هي وليمة سمائية بكل معاني الكلمة:
“أيها الإله الوحيد الجنس الذي في حضن أبيه، يا رب الآن بارك … أقسم … أكسر … أعطنا وكل شعبك”.
(القداس الغريغوري)
في القداس الإلهي نحن في السماء نحتفل بما أعطاه الله لنا: “هوذا كائنٌ معنا الآن عمانوئيل إلهنا، حمل الله الذي يحمل خطية العالم كله. الجالس على كرسي مجده، الذي يقف أمامه جميع الطغمات السمائية“. لذلك نشارك تسبحة الشاروبيم “ونصرخ بما يرسله أولئك بأصوات لا تسكت”.
فيسوع المسيح أعطانا حياته بواسطة اتحاد لاهوته بناسوته في كل مراحل وجوده على الأرض من بيت لحم حتى الصعود. وهو لا يتوقف عن العطاء بعد صعوده إلى السموات. بل أدخلنا إلى خدمة السمويات عينها التي نتذوقها في القداس الإلهي.
لهذا يتكلم القداس عن إصعاد الإنسانية في ناسوته “أصعدت باكورتي إلى السماء، باركت طبيعتي فيك، أكملت التدبير بالجسد“.
القداس الإلهي هو تحقيق عمل المسيح الذي عمله وتمَّمه وأكمله لاهوت المسيح في ناسوته خلال رحلة تجسده، وبالإفخارستيا يتم اتحادنا نحن البشر بناسوت المسيح الإله المتجسد.
دون إرساء مفهوم ما تمَّ في خلاص المسيح للإنسان، مستحيل أن نفهم القداس الإلهي الذي فيه المسيح حاضرٌ بيننا وينقل إلينا الحياة من ذاته هو.
المسيح الإله واجه موت الإنسانية في ناسوته. هذا الصراع حدث في داخل المسيح وليس خارجه، بين ما في الطبيعة الإنسانية وبين ما يمكن أن تعطيه الطبيعة الإلهية. صراع يدور على أرض الاتحاد بين اللاهوت والناسوت في المسيح الواحد.
حدث هذا التحول في الرب نفسه. لم يكن ممكناً إلا أن يذوق المسيح الموت بالجسد عندما لبس جسدنا جسداً له. فرغم أن المسيح طهَّر الجسد من سلطان الخطية والموت عندما لبسه، إلا أن موت الجسد الإنساني الذي سقط في موت الخطية لم يكن قد تم. ولم يكن ممكناً لجسد الإنسان الذي لبسه المسيح إلا أن يحيا عندما يتقابل مع الموت على الصليب لأنه صار جسد الإله الذي يحلَّ فيه “كلمة الله”. فالطبيعة البشرية التي لبسها المسيح لم تعد طبيعة مائتة.
الكاهن يقف مَثله مَثل الشعب تماماً في حضرة الله في القداس الإلهي والمسيح هو الذي يعمل من خلال الإكليروس كخادم للأسرار. وتؤكد صلوات القداس على أن الإفخارستيا هي وليمة المسيح: ”المائدة التي لك”. وليس كاهن غير المسيح يقدم جسده ودمه “أذكر يا رب هذا الكهنوت المقدس الذي لك”. فالمسيح هو الكاهن الأعظم يقدم ذاته ذبيحة لا تتكرر بل تستمر منذ الصليب “سبقت يا رب أن تجعل ذاتك حملاً بلا عيب عن حياة العالم”.
إن علاقة المسيح بالكاهن تظهر في قول الكاهن “أنت يا سيدي تعلم أني غير مستحق ولا مستعد ولا مستوجب لهذه الخدمة المقدسة التي لك… لكي أبتدئ وأهيئ وأكمل خدمتك المقدسة كما يرضيك“.
فالكاهن يُكمِّل عمل المسيح ليس بمعنى أن عمل المسيح ناقص، وإنما إكمال عمل المسيح يعني بشكل خاص تحقيق ما سبق فوعد به المسيح.
إن القداس الإلهي هو وليمة وعمل المسيح الإله الذي يوحدنا بناسوته ويصعدنا فيه ويدخلنا إلى الأقداس السماوية. وسبق وقلنا كيف ذكر القداس الغريغوري عمل المسيح هذا في القداس “أصعدت باكورتي (الطبيعة البشرية الجديدة في المسيح) إلى السماء“.
ويعود الكاهن الخديم ليكرر نفس المعني ليوضح التحام بشريتنا ببشرية المسيح في صعود الرب إلى السماء وأيضا في سر الإفخارستيا، وهو اتحاد لنا بالمسيح وصعوداً فيه إلى الأقداس، فيقول الكاهن “أعطيتني إصعاد جسدك بخبز وخمر“. بينما يقول في موضع آخر في القداس “أصعدت باكورتي إلى السماء، باركت طبيعتي فيك، أكملت التدبير بالجسد“.
لهذا نسمي القرابين في القداس أنها صعيدة سمائية أو الصعائد المقدسة السمائية.
ونحن نقدم القرابين في سر الإفخارستيا لأن الرب طلب منا أن نصنع هذا وجعله عهداً بيننا وبينه “اصنعوا هذا لذكري“.
إن تقديم القرابين تؤكد إيماننا ورغبتنا في الحصول على ما وعد به الرب “يُعطَى لمغفرة الخطايا هذا اصنعوه لذكري“.
والسُبح لله.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟