بداية، فاعلم يا عزيزي إننا الكنيسة الوحيدة اللا-خلقيدونية التي تنفرد بهذه الوصمة! نعم، فالكنيسة الأرمينية، والكنائس السريانية والهندية، أشقاء الإيمان، لا تعيد المعمودية مع الكنائس الخلقيدونية، بل وتشترك في الإفخارستيا أيضا دون أدنى غضاضة.
الواقع أن هذه هي الممارسة الصحيحة المستقرة تاريخيا، حتى كنيستنا أيضا كان هذا هو منهجنا الثابت حتى اجتماع مجلس الأساقفة في 3 يونيو 1990، الذي اتخذ فيه قرارا بعدم قَبُول معمودية الكاثوليك، وهو قرار جد شنيع لا يمكن تبريره، حتى إنني لا أعلم إن كان مصدروه يعون المعنى الكامن فيه!
لم يعدم التاريخ بالتأكيد بعض المتسلطين شذاذ الطبع، ممن رفعوا لافتة “حماية الإيمان”، ولكن دائما كانت رئاستهم الدينية لهم بالمرصاد، حتى وصل الأمر إلى قطعهم. لا أريد الإبحار بعيدا في البدايات الأولى لتعامل الآباء مع هذا الموقف، ولا أن أزحم المقال بأنواع شتى من الهرطقات وكيف قبلت الكنيسة معتنقيها، ما سأحاول تسليط الضوء عليه هو حِقْبَة ما بعد خلقيدونية، وتعامل الآباء مع العابرين من الخلقيدونية إلى اللا-خلقيدونية.
هناك دراسة تاريخية وافية أعدها اللاهوتي اللامع وباحث الدكتوراه أندرو يوسف، ويمكنك القراءة المتفحصة بالنقر على سلسلة: تاريخية إعادة المعمودية إن رغبت في التفاصيل.
سأعرج فقط على موقف كاشف للقديس كيرلس معلم المسكونة وختم الآباء، فالمعروف هو النهاية الدرامية لمجمع أفسس، ورفض أساقفة أنطاكيَة وكثير من أساقفة الشرق لما انتهى إليه المجمع وتشيعهم لنسطوريوس والآباء المؤسسين للفكر النسطوري، واستمر الموقف ملتهبا سنتين كاملين حتى رسالة المصالحة [يوحنا-كيرلس/ أنطاكية- الإسكندرية] التي أعادت الهدوء إلى الكنيسة، وإن لم تطفئ النيران. فهل طلب القديس كيرلس إعادة المعمودية والتثبيت لرعية هؤلاء الأساقفة باعتبارهم نسطوريين عابرين؟ هل طلب حتى شرطونية جديدة للكهنة والأساقفة؟ لم يحدث إطلاقا، وهو الموقف الذي انتهجه لاحقا كل آبائنا دون استثناء فيما بعد خلقيدونية.
القديس ديسقوروس من المنفى، يخبرنا الأب Peter Farrington في كتابه Orthodox Christology، إنه رفض تماما إعادة المعمودية والتثبيت للمتحولين إلى اللا-خلقيدونية، وياله من موقف أعجز عن التعبير عما يناسب نبله.
خليفته البابا تيموثاوس حذا حذوه، رفض إعادة المعمودية في وقت كانت الكنيسة تواجه اضطهادا عارما، كانت هذه عقيدة كنسية مارسها بارتياح كل آبائنا اللا-خلقيدونيين في الإسكندرية وأنطاكية.
” بعدما استولى الآريوسيون والمقدونيون على الكنائس، لا زمانًا يسيرًا بل أكثر من أربعين سنة، طردهم منها الملك المسيحي الطوباوي ثاودوسيوس، وجاء من بعدهم الأرثوذكسيون، ولم يُذكر أنهم أعادوا وضع يد الكهنوت الذي قام به الهراطقة ولا المعمودية. ولم يعارض أحدٌ من أبناء البيعة، ولم يخاصم الواحد الآخر زاعمًا إنه لا يجب اعتبار الذين نالوا وضع يد منهم كهنة، أو إن الذين اعتمدوا منهم ليسوا بمعمدين. بل اكتفى الأساقفة الأرثوذكسيون بأن جاءهم الذين كانوا آريوسيين ومقدونيين، واشتركوا معهم وصاروا معهم ومثلهم، كنيسة واحدة وفكرًا واحدًا. ولم ينتقوا منهم ذوي الفكر الدقيق لأن ذلك كان مستحيلًا، ولأنهم ارتأوا أيضًا أنهم إذا تعاملوا بالدقة في غير وقتها، وزعزعوا بذلك الإيمان، فإنهم يغيظون الله جدًا. ولئلا تضطرب الكنيسة ويُساء إلى الإيمان، بمطالبتهم بالدقة، ضربوا الصفح عن ذلك ”
(مار فليكسينوس المنبجي، في رسالته إلى دير تلعدا)
جوهرة تاج ما بعد خلقيدونية، العظيم القديس ساويرس الأنطاكي كان يطلق على بعض المتشددين بفلسطين (Theodotus of Joppa) الذين كانوا أعادوا الميرون “أصحاب دين إعادة المَسْحَة” وكان يتحدث عنهم كهراطقة، وأسبغ عليهم صفة “عديمي العقل”.
ستجد في التوثيقات الملحقة بعض فقرات من كتاب Incorruptible bodies للعالم “يوناثان موس”.
في قروننا الوسطى لم يكن موضوع إعادة المعمودية مطروحا على الإطلاق، على العكس، كان الزواج المختلط مع الخلقيدونيين واردا، وورد في قوانين البابا خريستوذولس تنظيما للزواج، فأشترط أن يتم الزواج في كنيستنا وأن يمارس الطرفان الشركة في كنيستنا، وأن يعمد الأطفال نتاج الزواج في كنيستنا، اند “ذاتس إت”!
“من تزوج بامرأة ملكية، فلا يمكّن من ذلك إلا أن يتكللا عندنا، بعد أن يشرط على الامرأة ألا تتقرب إلا عندنا، ولا يعمدوا أولادهم إلا عندنا”
(قوانين البابا خرستوذولس (البطريرك ٦٦ / ١٠٤٦م : ١٠٧٧م) – حكم زواج رجل قبطي من امرأة ملكانية )
في تاريخنا الحالي حتى قبل 1990، يبدو جليا موقف الكنيسة كما نستطيع قراءته من منهج التدريس بالكلية الإكليريكية، والذي تم إلغاء تدريسه لاحقا، بمناهج جديدة تساير التوجهات المستجدة.
“والجاري عليه العمل في الكنيسة القبطية الآن، هو عدم إعادة المعمودية للذين تعمدوا في كنائس تقليدية كالكاثوليك، واليونان الأرثوذوكس وأمثالهم”
(المتنيح القمص صليب سوريال، مذكرات في طقوس الأسرار)
أما يا عزيزي من سيحاول تضليلك أن السبب هو أن العماد الكاثوليكي يتم بالرش وليس بالتغطيس، فأخبره أن شقيقتنا الكنيسة الأرمينية تعمد بالرش، ولا تزيد.
لا أعلم كيف جرؤ مجمع أساقفتنا على هذا القرار، ولكن استمراره لم يعد مقبولا، ولا ممكنا. فلن يحكم كنيستنا رابطة خريجي الإكليريكية، دون العقل.
أرجو أن يكون قد حمل قداسة البابا في حقيبته، في أثناء زيارته المباركة، قرارا بالعودة إلى عقيدة أبائنا المستقرة، وتصحيحا لوضع شائن غير مقبول.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟