يحتل "حساب الأبقطي" مكانة بارزة في الوجدان الشعبي القبطي، باعتباره الحساب الذي صيغ محليًا لتحديد توقيت عيد القيامة سنويًا، دون الاعتماد على معرفة موعد الفصح اليهودي من اليهود أنفسهم، والذين كانوا يعتمدون وقتئذ على الرصد الفلكي لتحديد بدايات الشهور والسنوات والأعياد، أي أنها كانت تحدد سنة بسنة. ومن ثم يقال إن قسطنطين الكبير أصدر رسالة إلي كل الكنائس المجتمعة في "نيقية" للاعتماد على كنيسة الإسكندرية في تحديد توقيت عيد القيامة سنويًا. والسؤال هنا: هل لا زال هذا الحساب صالحا للاستخدام؟ والسؤال الأكثر أهمية، هل لا زال هناك ضرورة لاستخدامه؟ لنحاول الإجابة معًا على هذه الأسئلة.
الإشكالية والحاجة إلى حساب
التقويم العبري هو تقويم قمري يعاد تصحيحه ليماثل السنة الشمسية، ليحتفظ بمواسم الأعياد كما هي سنويًا، وهو غير التقويم القمري الهجري، الذي لا يهتم متي يأتي عيد الفطر مثلا صيفًا أو شتاءً، تأتي الأعياد اليهودية في نفس الموسم سنويًا، حيث إن الفارق بين السنة القمرية والسنة الشمسية هو أحد عشر يومًا تقريبًا (الشمسية أطول)، فيتم التصحيح بألية معقدة للغاية، تضيف شهرا كاملًا كل ثلاث سنوات (أحيانا سنتين فقط)، ويكون نتاج ذلك إن أي سنة عبرية تكون واحدة من ست سنوات مختلفة في الطول.
كان العالم المسيحي كله يستعمل التقويم اليولياني الشقيق، والمطابق للتقويم القبطي (نفس الطول وطريقة التصحيح). فإذا أردت تحديد التاريخ اليولياني/ القبطي الموافق لتاريخ ما في التقويم العبري (14 نيسان مثلًا) يلزم طريقة حساب تأخذ في الاعتبار طريقة تصحيح التقويم العبري.
حساب الأبقطي
صيغ حساب الأبقطي في القرن الثاني في حبرية البابا ديميتريوس الكرام، صاغه فلكي مصري اسمه “بطليموس الفرماوي”، كان فلكيا بارعًا واعتمد على فكرة حسابية هي اختيار عدد من السنوات (تشكل دورة تكرارية) يكون عدد الأيام الإجمالي فيهم متطابق في كلا التقويمين (أو الفارق أقل ما يمكن)، و كان سبقه لنفس الفكرة فلكي اسمه “ميتون” عام 432 ق.م، وصاغ ما يسمى “دورة ميتون” و كان عدد السنوات لهذه الدورة 19 سنة، و الفارق بين التقويمين في إجمالي الدورة 3 أيام.
استغل بطليموس دورة ميتون لصياغة خطوات حسابية تستطيع منها تحديد التاريخ القبطي/ اليولياني المقابل لتاريخ عبري، وفي حالتنا كان التاريخ الهام هو 14 نيسان، ميعاد ذبح خروف الفصح وصلب المسيح، لم يكن الحساب دقيقًا تمامًا لاعتماده على فرضيتين غير دقيقتين:
الأولى: إن السنة الشمسية 365 يومًا، وهي ليست كذلك على وجه الدقة.
الثانية: إن السنة العبرية إحدى سنتين فقط، بسيطة 354 يومًا، و كبيسة 384 يومًا.
بينما الواقع إن لكل تفريعة منهما هناك ثلاث سنوات متفاوتة الطول.
الخلاف التاريخي على موعد عيد القيامة
نشأ خلاف بين كراسي الكنيسة الجامعة على تحديد الاحتفال بعيد القيامة. الجميع احترم ارتباط توقيت صلب المسيح بتوقيت ذبح خروف الفصح اليهودي الموافق حصرا 14 نيسان في السنة العبرية، البعض كان يحتفل بالصلب في يوم ذبح الخروف دون اشتراط أن يوافق يوم “الجمعة”، فقط الالتزام بتاريخ 14 نيسان. بينما البعض اﻵخر (الإسكندرية وروما وآخرين) اشترطوا أن يكون الاحتفال بالصلب يوم “الجمعة”، فإن لم يوافق 14 نيسان يوم الجمعة، يتم الاحتفال بالصلب يوم الجمعة التالي لتاريخ 14 نيسان.
أثار اختلاف موعد الاحتفال استياء وحفيظة الجميع، حتى السلطة الحاكمة ممثلة في الإمبراطور قسطنطين الكبير، فكان القرار أن يكون بحث تحديد موعد الاحتفال بعيد القيامة هو أحد مهام مجمع نيقية المنعقد عام 325م.
قاعدة مجمع نيقية لتحديد عيد القيامة
اتفق الآباء المجتمعون في نيقية على تحديد قاعدة تحديد عيد القيامة كالآتي:
“عيد القيامة هو الأحد التالي للقمر المكتمل في الاعتدال الربيعي”، القمر المكتمل في الاعتدال الربيعي هو “قمر 14” نيسان بالتقويم العبري، وهو تاريخ ذبح خروف الفصح وصلب المسيح كما ذكرت سلفا. ولضرورة تحديد الأصوام والمناسبات المرتبطة بالقيامة مبكرًا، تم الاتفاق علي أن يصدر بابا الإسكندرية رسالة سنوية بتحديد ميعاد عيد القيامة، يرسلها لباقي الكنائس اعتمادًا على حساب الأبقطي.
لا نعلم يقينا المدة التي استمر فيها هذا التقليد إلا أن هناك حدثان مهمان ساهما في أفول هذا التقليد، الأول هو خَشْيَة الحاخامات اليهود من عدم التنسيق بين مجموعات اليهود في الشتات في تحديد الأعياد اعتمادًا على الرصد الفلكي، فتقرر عام 359م إعداد جداول للتقويم العبري محدد بها تواريخ الأعياد للسنين المقبلة، فأصبح معلومًا قبلًا توقيت “ذبح الخروف” للسنين المقبلة، وتقريبًا انعدمت الحاجة لحساب الأبقطي.
أما الثاني هو انعقاد مجمع خلقيدونية سنة 451م وما نتج عنه من انشقاق، وتقوقع كنيسة الإسكندرية.
الموقف الكنسي الحالي لتحديد عيد القيامة
لا توجد كنيسة رسولية تلتزم التزامًا تاما بقاعدة مجمع نيقية ولنستعرض معا موقف كل كنيسة:
الكنيسة الكاثوليكية:
التقويم المستخدم: الجريجوري (اليولياني بعد التعديل في 1582م)
تلتزم الكنيسة الكاثوليكية بنص قاعدة نيقية وليس بروحها، كانت قاعدة نيقية أغفلت ذكر “14 نيسان”، واستعاضت عنها بعبارة “القمر المكتمل في الاعتدال الربيعي” لاعتبارات تتعلق بالعلاقات السيئة باليهود وقتها، فإن اكتمل القمر في الفترة بين 21 مارس (الاعتدال الربيعي الجريجوري) و14 نيسان في الروزنامة العبرية، طبق نص قاعدة نيقية، ويأتي عيد القيامة في هذه الحالة قبل الفصح اليهودي، و هو مأخذ كبير على الكنيسة الكاثوليكية، وإن كانت هذه الحالة نادرة الحدوث.
عدا هذا فالكنيسة الكاثوليكية هي أدق الجميع تطبيقًا لقاعدة مجمع نيقية، ويأتي عيد القيامة دائمًا متزامنًا مع الفصح اليهودي.
الكنائس الأرثوذكسية:
التقويم المستخدم: اليولياني- القبطي.
في تقديري الشخصي إن الكنائس الأرثوذكسية -بشقيها الخلقيدوني وغير الخلقيدوني- تضرب عرض الحائط بقاعدة نيقية لأسباب مختلفة عند كليهما، يتصادف بعض الأحيان أن يأتي موعد القيامة صحيحًا مصادفة وفي أحوال نادرة، والأصل أن يأتي العيد مرحلا أسبوعًا، أو خمس أسابيع كاملة، والسبب هو استخدام تقاويم قديمة غير محدثة تراكم الخطأ فيها على مر السنين، واستخدام طريقة حساب غير دقيقة لم تعد لها ضرورة الآن بعد أن أصبح موعد الفصح اليهودي محددًا ومعروفًا سلفا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فالكنيسة الخلقيدونية التي تستعمل 90% من شعوبها التقويم الجريجوري في الاحتفال بعيد الميلاد، تأبى بكاملها إﻻ أن تستخدم التقويم اليولياني في تحديد موعد عيد القيامة، لغرض في نفس يعقوب، وتتبعها في هذا الكنائس غير الخلقيدونية ومنها كنيستنا.
هناك حالتان:
الأولى: أن يكتمل القمر بعد تاريخ 21 مارس بالتقويم اليولياني/ 25 برمهات بالتقويم القبطي/ 3 أبريل بالتقويم الجريجوري، وفي هذه الحالة إما أن يأتي العيد صحيحًا أو مرحلا أسبوعًا بسبب فروقات حساب الأبقطي.
الثانية: أن يكتمل القمر في الفترة من 21 مارس (الاعتدال الربيعي الصحيح) حتى 3 أبريل بالتوقيت الجريجور ي، وفي هذه الحالة فطبقا للتقويم اليولياني والقبطي لم يحدث الاعتدال الربيعي بعد (على خلاف الحقيقة) فننتظر القمر الذي يليه، مما يتسبب في ترحيل العيد خمسة أسابيع كاملة، والسؤال الذي يثير الريبة هنا: من قرر أن موعد الاعتدال الربيعي هو 21 مارس بالتوقيت اليولياني/ 25 برمهات بالتوقيت القبطي؟ لا أذكر أن هذا التحديد قد ورد بأحد المجامع المسكونية.
لماذا تتمسك الكنائس الخلقيدونية -تحديدا- بهذه الطريقة في تحديد موعد العيد؟ في تقديري الشخصي الرغبة في الانفراد بانبثاق النور المقدس في الموعد الذي يحددونه دون باقي الكنائس لما في هذا من أفضلية مفترضة.
الخلاصة:
+ تحديد موعد عيد القيامة طبقا لروح قاعدة نيقية أمر في منتهى اليسر والسهولة، و لكنه لا يلقى اهتمامًا ولا قبولًا من أصحاب القرار في جميع الكنائس.
+ لا أرى أملا قريبًا في التقارب حتى في موضوع بسيط مثل هذا، يوجد به قرار مجمعي مسكوني. والأمر يحتاج إلى تدخل إلهي.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- عيد الميلاد، والقبطي المخالف منذ عدة سنوات ظهرت صورة على مواقع التواصل الاجتماعي، يتفاخر من صممها بكونه "مسيحي أرثوذكسي ولا أحتفل بأعياد الكاثوليك.. أنا عيدي 29 كيهك"، وكأن العيد الذي يحتفل به الكاثوليك وغيرهم من الكنائس المختلفة حول العالم في 25 ديسمبر ليس تذكارًا لميلاد السيد المسيح على الأرض...