في البلاد الإسكندينافية (السويد والنرويج وفنلندا والدنمارك وأيسلندا) تكثر المياه الضحلة التي يتوالد فيها السمك بكثرة، ولذا يكثر أيضاً الصيادون هناك.

خرج الصياد ليصطاد وكان معه قاربه الصغير، لا يحمل فيه سوى أدوات الصيد ودلو بلاستيك فيه الطُّعم الذي يستعمله لصيد الأسماك، مع كلبه الظريف الأمين الذي لا يكاد يفارقه. وأثناء تجول الصياد بين الجزر الضحلة وقف ليلقي بصنارته المعتاد عليها. وبعد قليل جاء أحد طيور البجع المنتشر هناك ليأخذ أحد العناكب الموجودة كطعم لصيد الأسماك. فهبَّ الكلب الأمين وزمجر ضد هذا الطائر.

ثم مرة ثانية جاء الطائر ليأخذ أحد الديدان، فإذا بالكلب يلتقطها منه ويتناحران عليها. فطار الطائر الجميل وعاد إلى عشه القريب. هنا رأى الكلب الصغير ذاك الطائر البديع وهو يعطي فراخه الصغيرة أحد الأسماك كطعام. وحين دقق فيما حدث وجد أن الفراخ الصغيرة لم ترضَ أن تأكل هذا السمك. حينئذٍ أدرك لماذا كان البجع يسعى لأخذ إحدى العناكب من الصياد.

هذا الموقف جعل هذا الكلب الوفي الذكي ينتبه إلى هذا الأمر. فماذا فعل؟ إذا به يمد يده ويأخذ أحد العناكب ويضعها لطائر البجع لكي يُطعم بها فراخه. هنا طار طائر البجع إلى المركَب الصغير وأخذ العنكبوت البحري وعاد إلى فراخه ليُطعمها. فيا لفرحة هذا الكلب الذكي حين رأى الفراخ الصغيرة فرحانة بالطعام الذي أتاها، فرفرفت بأجنحتها، وأكلت الطعام بفرح وسرور.

وما هي إلا لحظات حتى عاد طائر البجع ليرُدَّ الجميل للكلب الوفي: لقد عاد وفي منقاره الكبير عدة أسماك صغيرة مما استطاع أن يصطادها، ثم ألقاها في المركَب أمام الكلب الصغير. نظر إليه الكلب نظرة خَجِلَة، وهز ذيله تعبيراً عن امتنانه لهذا الكرم من البجع.

هنا انتبه الصياد لَمَّا يجر وجاء لينظر إلى الكلب والهدية التي حصل عليها. حينئذٍ فَهِمَ الصياد ما كان، ورَبَتَ على الكلب الصغير الوفي وفرح أنه تعلم الدرس.

وما هو الدرس؟

تعلَّم أن العطاء جزء لا يتجزأ من منظومة الحياة التي نحياها. فهو باب للسعادة والرضا في هذه الحياة؛ يملأ القلب سروراً والفكر هدوءاً والعقل فهماً ووعياً، وهو سر من أسرار الحياة السعيدة. فقد قال أحد فلاسفة زمانه: إن قمة السعادة تكون في العطاء وليس في الأخذ. وبالإجمال قد صدق الكتاب المقدس حين قال:

فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ».

(سفر أعمال الرسل 20: 35)

«هَاتُوا جَمِيعَ الْعُشُورِ إِلَى الْخَزْنَةِ لِيَكُونَ فِي بَيْتِي طَعَامٌ وَجَرِّبُونِي بِهَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِنْ كُنْتُ لاَ أَفْتَحُ لَكُمْ كُوى السَّمَاوَاتِ وَأُفِيضُ عَلَيْكُمْ بَرَكَةً حَتَّى لاَ تُوسَعَ. وَأَنْتَهِرُ مِنْ أَجْلِكُمْ الآكِلَ فَلاَ يُفْسِدُ لَكُمْ ثَمَرَ الأَرْضِ وَلاَ يُعْقَرُ لَكُمُ الْكَرْمُ فِي الْحَقْلِ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. وَيُطَوِّبُكُمْ كُلُّ الأُمَمِ لأَنَّكُمْ تَكُونُونَ أَرْضَ مَسَرَّةٍ قَالَ رَبُّ \لْجُنُودِ.»

(سفر ملاخي 3: 10-12)

«غَيْرَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ حَسَناً إِذِ اشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي. وَأَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْفِيلِبِّيُّونَ أَنَّهُ فِي بَدَاءَةِ الإِنْجِيلِ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، لَمْ تُشَارِكْنِي كَنِيسَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حِسَابِ الْعَطَاءِ وَالأَخْذِ إِلاَّ أَنْتُمْ وَحْدَكُمْ. فَإِنَّكُمْ فِي تَسَالُونِيكِي أَيْضاً أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ لِحَاجَتِي. لَيْسَ أَنِّي أَطْلُبُ الْعَطِيَّةَ، بَلْ أَطْلُبُ الثَّمَرَ الْمُتَكَاثِرَ لِحِسَابِكُمْ. وَلَكِنِّي قَدِ اسْتَوْفَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَاسْتَفْضَلْتُ. قَدِ امْتَلأْتُ إِذْ قَبِلْتُ مِنْ أَبَفْرُودِتُسَ الأَشْيَاءَ الَّتِي مِنْ عِنْدِكُمْ، نَسِيمَ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، ذَبِيحَةً مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ. فَيَمْلأُ إِلَهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. وَلِلَّهِ وَأَبِينَا الْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ. آمِينَ.»

(رسالة بولس إلى فيلبي 4: 14-20)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

برتي المقاري
راهب في دير القديس الأنبا مقار الكبير  [ + مقالات ]