لقد سقط الإنسان فريسة لخداع الشيطان الحية القديمة، ولم يكن اختيار إرادته الحرة متوافقاً مع إرادة الله بالبقاء في مجال حياة الله فينال نعمة الخلود، فانسحبت الحياة من طبيعة الإنسان ودخلها الموت، وعوض الخلود فإن مصيره صار العدم والفساد، وبهذا فإن الموت هو نتيجة لاختيار الإنسان وليس عقوبة من الله لِما أختاره الإنسان.
وبمخالفة الله فقد تجردت طبيعة الإنسان من حالة البر المخلوق عليها أصلاً، لأن المخالفة هي تغرُّب عن مصدر البر والقداسة الذي هو طبيعة الله، ونجد الإشارة لتلك الغربة بعد السقوط في اختباء آدم وحواء خلف أشجار الجنة عند سماعهما صوت الله مقترباً.
فخطية الإنسان أنتجت غربة عن الله وحجبت بصيرة الإنسان عن الإحساس داخل كيانه بالله أو في مظاهر الخليقة حوله فصار الكل حجاباً لا مرآة وكتاب يرى فيه خالقه.
واستمر فشل ذرية آدم في التعرف على الله بالرغم من كل إعلانات الله لنفسه بطرق متنوعة و ظهورات ”حكمة الله/ كلمة الله“ في الخليقة التي سبقت تجسده وكان أبرزها ظهوره في العليقة المشتعلة لموسي نبي الله.
وانعكاساً لما آلت إليه طبيعة الإنسان من شر وما أملته على فكره من ظلمة، فقد طفح جحود المحبة في الإنسان ونسي كيف أن عمل الخلق كان افتقاد من نعمة الله للإنسان قبل أن يتصور في الوجود. بل حتى إن البعض استنكف أفتقاد الله للإنسان بعد السقوط واتجهوا لتنزيه الله عن الاتصال بخليقته، فاعتبروا افتقاد الله/ كرازته لهم من خلال التجسد الإلهي جهالة ينزِّهون الله عنها بينما هم بهذا يكشفون كيف هوى الإنسان وسقط بطبيعته متغرباً عن أصله كمخلوق إلهي. وقد ألمح الكتاب إلي شرحنا هذا:
لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ، اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ.
(رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 1: 21)
(افتقاد الله لمحبوبه الإنسان بالتجسد الإلهي الذي يعتبره البعض جهالة ).
وكما تجلى حب الله العجيب في ”تدبير الخلق“ يتجلى مرة أخرى في ”تدبير الخلاص“ من مصير الموت والعدم. فتجَسَد المسيح ”الحياة أُظهرَت“ وأشرق النور الإلهي داخل طبيعة الإنسان ”بظهور الله في الجسد“ وتبددت ظلمة طبيعة الإنسان عندما سكنها المسيح ”أنا هو نور العالم“.
هذا ”التدبير“ أي العمل الإلهي أشار إليه الوحي المقدس أنه صار للبشرية ”طريقاً حياً حديثاً بالحجاب أي جسده“. لقد صارت بشرية المسيح معملاً إلهياً لخلاص الإنسان وشفائه من عجزه الفاضح بغواية الشرير منذ آدم مروراً بذريته.
لقد أستتر نور الله خلف حجاب الجسد الإنساني الذي لبسه في التجسد، هذا هو الإخلاء الإلهي ”إن الله أخلى ذاته ظاهراً في صورة عبد“، ولم يكن الرب الإله المتجسد عبداً في المجتمع، ولكنه -له المجد- دخل إلى عمق الطبيعة البشرية حيث استعبد الشيطان كل بشر بعد السقوط.
وعندما لبس ابن الله جسدنا الإنساني، تبددت الظلمة الداخلية لطبيعتنا البشرية وانشق حجابها الذي كان يحجب نور الله. هذا ما أنبأت به النبوات ”نور يشرق على الجالسين في الظلمة وظلال الموت“ ورأته البشرية على استحياء بسبب الإخلاء على المستوى المنظور عندما انشق حجاب الهيكل اليهودي من الوسط خلال أحداث صلب المسيح وأيضاً أشرق النور على الرعاة الجالسين في ظلمة الليل برعيتهم عندما بشرهم الملاك بميلاد المخلص.
إن هذه الحقائق اللاهوتية تصلي بها الكنيسة في القداس الإلهي وتسبح الله ومسيحه متذكرة نعمته فنقول للرب ”والحاجز المتوسط رفعتَه والعداوة القديمة أزلتَها “. هذا هو اللاهوت المسيحي عمق الروحانية الأرثوذكسية.
فالطبيعة البشرية الساقطة التي دخلها الموت صارت حجاباً يفصلنا عن الله في القديم ولسان حالها يقول ”ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت“، ولكنها تجددت في بشرية المسيح، فباتحاد لاهوت المسيح بالطبيعة البشرية صارت هي نفسها ”طريقاً“ يوصلنا ويربطنا بالله في العهد الجديد ”حديثاً“، هذا هو موقع الناسوت الذي لبسه اللاَّهوت في تدبير تجسد ابن الله. فناسوت المسيح صار طريقنا إلى الشركة في مجال حياة/ لاهوت الله.
لذلك ”لا وسيط غير المسيح“ في خلاص الإنسان لرجوعه إلى شركة مجال حياة الله، إن كل من يؤمن بالمسيح يتحد بطبيعة المسيح البشرية التي تجدَّدت ومن ثمَّة تقدَّست وتمجدَّت في محضر الآب السمائي في المسيح يسوع. هذه هي شركتنا في الطبيعة الإلهية التي تهلل بها الوحي على لسان بطرس الرسول ”شركاء الطبيعة الإلهية“ ( رسالة بطرس الرسول)
بسقوط الإنسان تشوهت فيه صورة الله التي خُلِقَ عليها كيانه الإنساني، ولكن تدبير الخلق لم ينته عند هذا الحد بل استمر في استعلان ذاته للإنسان وافتقاده له في غربته بطرق متنوعة.
إن ”ابن الله“ هو صورة الله ”هو (المسيح) بهاء مجد الله ورسم جوهره“، و”كلمة الله“ (يوحنا 1) و”حكمة الله“ الذي خلق الله به العالمين.
وكانت ظلال ”حكمة الله“.
والسُبح لله.
بقلم د. رءوف إدوارد.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟