اعتدنا في مكتبنا الهندسي الحديث أن نتقابل مع ضيوفنا في غرفة مجاورة لصالة الرسم، بها نقدم لضيوفنا ما وجب علينا تقديمه. فعندما جاء صديقي "أديب" وهو زميل منذ أيام الدراسة، استقبلته هناك. وبعد دقائق قليلة أحسست إنه يخفي همومًا كثيرة، فقلت له:إني أدعوك لرحلة جميلة ستسعد بها، فرحب بكلامي. وفعلًا تقابلنا في يوم العطلة، وكانت وجهتنا إلى أعظم ما بناه الإنسان المصري في تاريخه كله، ألا وهو الهرم الأكبر: هرم خوفو! [1]
ذهبنا هناك وبعد أن استمعنا إلى الشرح وشاهدنا الموقع الأثري الفريد، جلسنا نأكل ما حملناه لنسد جوعنا ونتسامر قليلًا. قلت لصديقي: عزيزي أديب، ألست تفخر بهذا الهرم الأكبر هنا في مصرنا العزيزة؟
أجابني على الفور: أكيد! أنت تعلم كيف كنا نقرأ كل الكتب التي تتكلم عن هذه الحضارة العريقة
. قلت له: صديقي: إنني أرى رأيًا موازيًا لهذا الرأي!
قال لي: وما هو؟
قلت له: إن هناك أشياء أهميتها أثقل من هذا الهرم الكبير!
اتسعت عيناه وابتسم وبدأت أساريره تسعد بهذا الحديث. ثم قال لي: ماذا تقصد؟
قلت له: تعال معي أذكرك بما حدث معنا ولم نلحظه حتى كبرنا وأدركنا كل هذه الأمور.
فقال لي: “وما هذا؟” قلت له: “أذكر مَنْ حملتك تسعة أشهر في داخلها، ثم ستة أشهر على يديها، وتابعتك لتغذيك وتهتم بكل أمور حياتك حتى نَمَيت ورَبَيت جسدًا ونفسًا وروحًا، وكانت هي أول من سندك لكي تخطو الخطوات الأولى في حياتك، لكي تسير سيرًا صحيحًا! وها هي تحملك إلى الأبد في قلبها. ولو تأملت في الكائنات الأخرى في دور الأم سوف تجد العجب العجاب من الغرائز التي وضعها الله في هذه الخلائق، ليتمجد اسمه من جيل إلى جيل. أليست “الأم” ككائن خلقه الله منذ البَدْء لها هذا القدر الكبير الذي له ثقل لا يقل عن هذا المبنى القدير الأثري الذي نحميه كأثر شاهد على حضارة عريقة!
ولا أستطيع أن أترك جانبًا الدور الآخر لشخص “الأب” الذي يهتم بكل ما يحيط بالإنسان في الحياة، لكي يبني الحياة التي يعيشها كل من فيه نسمة حياة. فهذا المخلوق الذي نسميه “رجل” هو أجمل مخلوق خلقه الله، لأنه مخلوق على صورة الله ومثاله:
«نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا»
(سفر التكوين 1: 26)
فمن سماته إنه يضحي بجميع الأشياء ليعطيها لأسرته أو مجتمعه — حتى نفسه! وفي حدود العائلة، تجد إن العالم بأسره بخير ما دام رب العائلة بخير وعلى وعي بدوره الهام لحفظ السلام في العائلة والمجتمع المحيط به. كم وكم سجلت البشرية تضحيات بذلها رجال من أجل ذويهم ومجتمعهم!
أما الإخوة والأخوات، فهم أول من يعطي درسًا في الحياة المشتركة وكيف يتشارك الأولاد في الحياة بحُلوِها ومُرِّها، وهم البركة الثانية بعد الأم.
أما الأخ فهو مَنْ يحبك دون أن يقول ذلك، ويحبك أكثر من أي إنسان آخر في العالم.
أما الأصدقاء، فهم أول من يعلِّمك كيف تحترم الآخرين المختلفين معك في الرأي ووجهات النظر. هؤلاء الأصدقاء الأوفياء هم مثل النجوم، ربما لا تميز وجودهم جيدًا، ولكن تعلم جيدًا أنهم بجانبك في كل محنة أو تعثـُّر في الطريق.
ثم شريك الحياة المحب والمحبوب، وهو أول إنسان يجعلك تدرك قيمة وأهمية التضحية والتفاهم، وهو أول إنسان يجعلك تحارب العالم كله لكي تعيش معه تحت سقف واحد، داخل عش الزوجية.
ثم الأبناء -لمن رزقهم الله بهم- فهم أول من يعلمك الصبر والجَلَد، وكيف تهتم بالآخرين عن أن تهتم بنفسك.
أما الأحفاد -ويا لهم من خلائق رائعة- فيجعلونك تشتاق أن تعيش من البداية، مرة أخرى، لكي تنعم بالحياة معهم وتسعد بلحظات تسترجعها من الطفولة البريئة التي عشت فيها سابقًا ولا تستطيع استعادتها مرة أخرى.
فارجع يا صديقي إلى عائلتك وأقاربك الذين تركتهم واقضي معهم وقتًا أطول، فسوف تشبع بتواجدك معهم من الدفء العائلي والوحدة فيما بينكم. وتذكر إن العائلة الواحدة لا يحتاج الأمر أن تكون كاملة، بل أن تكون متحدة بعضها ببعض. والعائلة ليست دماء واحدة فقط؛ بل هم مَنْ يكونوا مستعدين أن يحملوا يدك حينما تكون محتاجًا إليهم بشدة.
حينئذ اغرورقت عينا صديقي أديب، وهز رأسه موافقاً على كلامي، ثم رفع رأسه عاليًا، وبصوت خفيض قال: “يا رب”.
فقلت له: “عزيزي، إن أهم أمور هذه الحياة الدنيا هي: الصحة والحرية والحياة. فالصحة هي حقوق جسدك عليك وعلى من حولك؛ والحرية هي حرية إرادتك التي وهبك الله إياها وهي أن تختار الخير لكي يكون سبيلك في الحياة آمن وفي نمو دائم. يقول الرب في سفر التثنية:
“قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ، إِذْ تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ وَتَسْمَعُ لِصَوْتِهِ وَتَلْتَصِقُ بِهِ، لأَنَّهُ هُوَ حَيَاتُكَ وَالَّذِي يُطِيلُ أَيَّامَكَ”
(سفر التثنية 30 : 19 و20)
أما الحياة فهي “المسيح” لأنه قال:
“أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ”
(إنجيل يوحنا 14 : 6)
وعليك أن تعلِّم هذا لمَنْ هم حولك، أو أن تعيشها بكامل كيانك، وتكون متواجدًا مع من يحتاجون إلى تلك الخبرة الحياتية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟