عارف يا دكتور عمري وأنا صغير ما حسيت بليلة العيد ولا يوم العيد، بابا وماما كانوا على طول بيتخانقوا زي ما قلت لك، بس خناقات العيد كانت خناقات مميزة، خناقة فجائية، بلا سبب وبلا هدف، وكأنهم اتعودوا يتخانقوا اليوم ده فقرروا إنهم ما يقطعوش العادة، كنا نبقى قاعدين في أمان الله ونسمع صوت عالي واتهامات متبادلة.
أمي كانت ست طيبة باباها اتوفى قبل ما تتزوج أبويا بشهور قليلة، لكن جدتي -أمها- وعمامها أصروا إنهم ما يأجلوش الزواج، وإن كل حاجة تحصل في ميعادها. يمكن ده كان له أثر على ماما، أو يمكن ده خلالها تفضل حاسة بالذنب طول عمرها.
مش عارف، كانت عاوزة أبويا يبقى نسخة طبق الأصل من أبوها، على الرغم إني عرفت أن لما جدي كان عايش كانت أمي برضه دائمة الخلاف والخناق معاه، لكن ده ممنعهاش إنها طول الوقت كانت تقارن ما بين أبويا وأبوها، في الوقت اللي كان فيه أبويا شخصية مختلفة جدًا وكان مستحيل يكون الشخص اللي هي عاوزاه.
أبويا كان شخص مثالي جدًا بس وهو بعيد عن أمي، وأمي كمان كانت شخصية مثالية جدًا بس وهي بعيد عن أبويا، أكبر غلطة كل واحد فيهم عملها في حق نفسه وفي حقنا إنهم اتجوزوا بعض، المشكلة إنهم ما دفعوش ضريبة غلطتهم لوحدهم، لكن مرغمين ودون إرادة دفعنا معاهم الضريبة ديه.
عمري في حياتي أنا وإخواتي ما دقنا فرحة العيد، زعيق وخناق وصراخ وبكاء، واتهامات متبادلة، وكل واحد يلعن اليوم اللي شاف التاني فيه، عيد ورا عيد ونفس المشهد بيعيد نفسه لحد ما أبويا قرر يسيبنا ويمشي، كان دائما بيهدد إنه هيمشي بس مكناش فاهمين إن فكرة الرحيل فكرة جدية مش مجرد تهديد.
الغريب إنه بعد ما مشي ولا هو عاش مرتاح، ولا هي بقت مبسوطة، ولا إحنا كنا مبسوطين، ويعدي علينا العيد من غير عيلة، ومن غير فرحة زي كل عيد، هو حزين وهي بتبكي واحنا اتكتب علينا إرث ماختارنهوش، ما سبوش لينا اختيار غير إننا نكرههم هما الاتنين، رغم إننا كنا عارفين إنهم ضحايا قرار غلط وغير مدروس أخدوه في لحظة طيش أو عدم نضج، بس كرهناهم لأنهم دفعونا معاهم الثمن واحنا ملناش ذنب.
لحد ما في ليلة عيد أبويا مات من الحزن، محدش عارف انتحر ولا مات موتة ربنا، ومحدش اهتم يعرف، الغريب يا دكتور إن أمي فضلت تبكي على موته ورغم كده أصرت إنها ما تروحش ولا الدفنة ولا العزا، وكانت تقول للناس اللي سابنا نتبهدل وهو حي ما نمشيش وراه وهو ميت، كانت عاوزة تبان قدام الناس إنها قوية، لكن كلنا كنا عارفين إن مكنش عندها حاجة قوية غير صوتها العالي لكن هي من جوه ضعيفة وهشة وبتتحامى في صوتها.
كانت دموعه تنسال على وجنتيه منذ أن بدأ يسترجع معي ذكرياته، ولكنه عندما وصل إلى هذه النقطة أجهش في البكاء. لم أجد نفسي إلا وأنا أجذبه إلى حضني وأربت عليه، وأستعيد قصصًا كثيرة مماثلة مرت عليّ، وفي كل مرة كنت أتسأل: لماذا يخطئ أولئك ويجني ثمار أخطائهم هؤلاء الأبرياء فيتأذوا نفسيًا وتتشوه لديهم معان من المفترض أنها جيدة، بل ومن المفترض أنها هي التي تعطي معنى للحياة، كنت دائمًا أتسأل ولا انتظر إجابة، ربما لأني أعرفها من كثرة تكرارها في القصص المتشابهة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟