تحكي الميثولوجيا الإنسانية أن لآدم الأول زوجة أولى اسمها "ليليث" أصبحت مصدر خَشْيَة الجميع، الترابية التي خلقت بمساواة مع رجلها لم تستسغ الدونية التي عوملت بها، وكانت مصدر إزعاج مستمر للذكر المسكين، انتهى بها المطاف لترك "جمل" الفردوس بما حمل والحياة في العَتَمَة مع الملاك الساقط "سمائيل"، تعزو إليها الميثولوجيا أنها -مع رفيقها- كانت الحية التي آطاحت بالآدميين خارج الفردوس، في انتقامٍ يليق بملكة الظلام.
الزانية، الناسكة، القديسة، صفات أُطلقت على الأوغسطا “ايليا بولكيريا” أُطلق الوصف الأول عليها نسطوريوس، أحد أسمن ضحاياها، وأسبغ عليها جماعة الخلقيدونيين القداسة، بعد أن كانت اللاعب الرئيس في تكريس انتصار نهائي وحاسم لهم في خلقيدونية.
ليليث بيزنطة كانت العذراء المكرسة، الشقيقة الكبرى والوصية للإمبراطور ثيئودوسيوس الصغير، فحفرت لنفسها نفوذًا هائلًا، تضائل بجانبه نفوذ الإمبراطور نفسه، والحق أنها تميزت بذكاء حاد وقدرة هائلة على التخطيط، والأهم تميز فريد في التعامل مع الأضداد.
نفوذ صاحبة الجلالة الديني لم يكن يقل عن نفوذها السياسي، بل كانت المشرفة على السياسة الدينية الإمبراطورية، في أوج فترة الصراع على مناطق النفوذ بين السياسي والديني، ربما ننوه هنا أنها هي من شكلت لجنة للتحقيق في مصرع “هيباتيا” الفيلسوفة المصرية، وخلصت إلى: “يسر حكمتنا أن ينأى رجال الدين بأنفسهم عن التدخل في الشئون العامة”.
هي نفسها التي أحاطت الأسرة الامبراطورية بحاضنة رهبانية واسعة بقيادة نساك ذوي سيرة حسنة جدا، مثل دلماتيوس، ألكسندر، وهيباتيوس، تحسبا لأي تمرد شعبي. وهي نفسها التي اعتمدت على مقاتلين محترفين من “الجرمان” يدينون باﻵريوسية في حربها مع القبائل البربرية التي كانت تشكل تهديدًا دائمًا للحدود الشِّمالية للإمبراطورية.
لا شك -عندي- أن خوض المجامع لهو عمل سياسي يتقلص بجانبه الحق الديني، الحصافة وهندسة التحالفات والمناورة السياسية، كلها مقومات لازمة لرجل الدين الذي تضعه الأقدار في مواجهة مواقف مسكونية.
على عكس القديس كيرلس، لم يكن لنسطوريوس نصيب كبير من هذه المقومات، فقد بدأ بصدام مدوي مع بولكيريا، حين رفض أن يناولها في الهيكل مع شقيقها وهو الامتياز الذي كان مستقرًا لها، بل وتلاسن معها في هذا الموقف، وكان واضحًا أن “ليليث” لن تغفر، إذا أضفنا لهذا أخطاء أخرى من موقفه من الرهبان وكنيسة الجنود الجرمان، لم يكن الأمر ليمر.
البطريرك الذي كان مغترا بالدعم الإمبراطوري الواسع، وثقة البلاط، والساعي إلى فرض رؤيته اللاهوتية مسكونيًا، والقضاء التام على عدوه اللدود “كيرلس” عن طريق طلب عقد مجمع مسكوني يعقد في القسطنطينية، حديقته الخاصة وتحت أنظار داعمه الإمبراطور، يحضره الأساقفة من الصفوة رفيعي المعرفة اللاهوتية، أسقط في يده عندما علم بالترتيبات التي أفضى إليها تدخل بولكيريا، نقل المجمع إلى مدينة “أفسس” مدينة “والدة الإله” التي يرأس على أساقفتها “ممنون” أحد غلاة أعدائه، والدعوات التي كان واضحًا أنها تطلب حضورًا واسعًا، لا شك أن أغلبه سيكون من أساقفة التقوى الشعبية وليس علماء اللاهوت.
ندم نسطوريوس على مسعاه لعقد مجمع، فقد بدا واضحًا أنه خسر معركته قبل أن تبدأ، وهذا ما حدث، لم يكن للدعم الإمبراطوري أي أثر في مواجهة الضغط الشعبي العارم، وانتهت الوقائع كما نعرفها. أما ما يمنحها الليليثية بجدارة فهو خططها التي نجحت في خلقيدونية، التي جلبت على العالم والمسيحية شرورا مستطيرة لا زال كلاهما يعانيها، وقبل أن نتطرق إلى دورها فيه، نَمِر سريعًا على الأحداث التي أفضت إليه.
لم يستسلم الأنطاكيون للهزيمة القاسية في أفسس، أعادوا تنظيم صفوفهم، وأعادوا التمركز والدفع برجالهم في الكراسي المهمة لإعادة تكوين “لوبي” ضاغط بعد فقدان عدد من رموزهم، ساهم في الأمر توالي غياب الوجوه المؤثرة بالوفاة التي طالت القديس كيرلس، يوحنا أسقف أنطاكيَة، كليستينوس أسقف روما، الذي تربع على كرسيه “لاون” رئيس شمامسته الذي سنفرد له مقالا في هذه السلسلة.
عندما اشتد عودهم، تم اصطياد راهب كيرلسي مسن لم يكن لاهوتيًا من الأساس لنزال لاهوتي لم يكن يهدف إلا لتخطئة الفهم اللاهوتي السكندري وإعادة الفهم اللاهوتي الأنطاكي للصورة مرة أخرى، عقد مجمعًا محليًا حرم على أثره الراهب المذكور “أوطاخي” ولكن لإن الأمر كان صبيانيًا وفجًا، سهل الطعن على قرارات هذا المجمع، وخصوصا لأن “أوطاخي” كانت تربطه علاقة وثيقة بكبير موظفي القصر “كريسافيوس”، هذا الذي كان ألد أعداء بولكيريا في القصر، لأنه الوحيد الذي كان قادرا على إحباط خططها لقربه من ثيئودوسيوس.
الطعن أسفر عن عقد المجمع المسكوني “أفسس الثاني” الذي تولى رئاسته بتكليف إمبراطوري القديس ديسقورس بابا الإسكندرية اللاحق للقديس كيرلس. هنا نعود للتذكير بالمقومات الشخصية، ق. ديسقورس لم يكن سياسيًا بارعًا كسلفه، لم يملك حصافته وتمكنه، فارتكب الكثير من الأخطاء الإدارية في إدارة المجمع، وظن أن استناده على الإيمان الصحيح المبني على أفسس سيطلق يده في التصرف فيما يراه صوابًا ولكنه كان مخطئًا، فجاءت الطامة الكبرى باستصدار قرار مجمعي بجرم فلافيان أسقف القسطنطينية المقرب من بولكيريا، مع عدد آخر من الأساقفة في تصرف غير محسوب، جن جنون بولكيريا، فالمرء لا يجد أسقفًا مواتيا كل يوم، وأصبح من المؤكد أن هناك كارثة ليليثية يجري التخطيط لها.
عجل بالكارثة موت ثيئودوسيوس المفاجئ في حادثة سقوط من حصانه، وكان أول قرارات بولكيريا هو إعدام “كريسافيوس” ممثل السكندريين القوي في البلاط.
دانت الإمبراطورية تمامًا لبولكيريا، حتى أنها تخلت عن تكريسها وتزوجت القائد “مركيان”.
كل خطط ليليث تقود حتما لما حدث في خلقيدونية، هناك حساب ينبغي تسويته مع الإسكندرية، ونزع أظافرها تمامًا، انقياد تام للتحالف مع روما -التي أصبحت في وجود لاون عدوا للإسكندرية- لتأمين شرعية زواجها من مركيان والتعاون في الحرب المستعرة مع القبائل البربرية، وأخيرًا الرغبة المتجددة في جعل القسطنطينية بمساواة روما في كرامة الكرسي الأسقفي.
لم يكن الأمر صعبا، نجحت ليليث في خططها كما أعتادت دائمًا، ودفعت البشرية ثمنا فادحًا جديدًا، وهذا ما سيرد ذكره في الحديث عن وقائع المجمع.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- مجلس كنائس الشرق الأوسط والقضيّة الفلسطينية منذ أن تأسس مجلس كنائس الشرق الأوسط عام ١٩٧٤، وهو منشغل بالقضية الفلسطينية، ولا يكاد يخلو أي اجتماع من اجتماعاته من التعرض لهذه القضية، كما عقد المجلس على مدار نصف القرن من الزمان الكثير من المؤتمرات والندوات مطالبين بإقرار السلام القائم على العدل. منذ أسابيع، عقدت اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط اجتماعها الدوري في......