الفلسفات والديانات القديمة تؤمن بأزلية الكون والمادة وخلود الإنسان، أما المسيحية فتؤمن بأن الإنسان خُلِقَ من العدم أو اللا وجود.
(القديس أثناسيوس الرسولي)
ما خُلِقَ من العدم لا يقدر على استمرار الوجود أو الخلود بقدراته الذاتية. لذلك نقول بأن الإنسان فاني بطبيعته. بحضور كلمة الله (الأقنوم الثاني في لاهوت الله – الواحد الجوهر المثلث الأقانيم) وتعطفه علينا دُعينا من العدم إلي الوجود في الفردوس.
استقر عند آباء الكنيسة أن الفردوس لم يكن هو الوطن الأبدي للإنسان، فهو وطن هشٌ، وقابل للدمار الطبيعي، وكذلك النظام الكوني كله.
التغيير -الانتقال من عدم الوجود إلى الوجود- هو أصلٌ في الإنسان التصق بطبعه.
(القديس اغريغوريوس النيسي)
لذلك فإن التغيير وعدم الثبات يؤدي إلى انحلال الوجود الإنساني والرجوع إلى العدم، هذا هو الموت الطبيعي، ولأن أساس العلاقة بالله عند خلق الإنسان هي النعمة، لذا كانت غاية الخلق هي دعوة الله للإنسان من العدم إلى الوجود الطبيعي، ثم الوجود والحياة حسب صورة الله في الفردوس، و أخيراً دعوة الإنسان للحياة الخالدة الأبدية في السماء. فالموت الطبيعي يسبق انتقال الإنسان من الفردوس إلى السماء و الحياة الأبدية.
خُلقَ الإنسان على ”صورة الله“، و هذا أساس الحياة الأخلاقية في الإنسان، التغيير وعدم ثبات طبيعة الإنسان، جعل حرية الاختيار عند الإنسان قادرة أن تميل إلى الخير أو الشر. إذا حفظ الإنسان النعمة الإلهية، واستمر صالحاً، استطاع الاحتفاظ بحياته في الفردوس بلا حزن، ولا ألم، فضلاً عن موعد الخلود -الحياة الأبدية- في السماء عندما ينتقل ”بالموت الطبيعي“ من صلاح الوجود في الفردوس إلى وجود الصلاح في السماء وخلوده.
عدم ثبات الإنسان في الخير وبحسب ”صورة الله في الإنسان“ يُحسب تفريطاً في النعمة -أي استهانة بعطية الصورة الإلهية في الإنسان -وخروجاً على غاية الخلق، هذا هو التعدي والخطية. وبالموت في هذا الوضع ينتقل الإنسان من شر الحياة الأرضية إلى الوضع الأول قبل الخلق وهو العدم والفناء واللا وجود.
الموت عندئذ يُسمَّى موت الخطية، وهو لم يكن ضمن تدبير الخلق، مقارنةً بالموت الطبيعي للإنسان، إن الخطية والتعدي أعطى سلطاناً وسيادة شرعية للموت على الجنس البشري، وبموت الخطية أغلق الإنسان على نفسه في دائرة العدم، أي فقدان الشركة في مصدر الحياة، بالتالي أصبح لا مجال له في البقاء في الفردوس وطرد خارجاً، وبطبيعة الحال متى تجرَّد الإنسان من معرفة الله يعود إلى العدم، ولكن هذا لم يحدث وسنرى لماذا لم يفن الإنسان؟
كان المفروض حسب خطة الله للإنسان أن يتأمل كيانه كصورة الله فيُدرك مِن تلك الصورة حقيقة وجود (حضور) كلمة الله، والكلمة يُعلِن ذاته والآب، خطة الله للإنسان هي أن يحيا ليعرف، يختبر الحياة والوجود حسب صورة الله أولاً، حينئذ يأخذ المعرفة، يأكل من شجرة الحياة، لكي يحيا حياة حقيقية تُعطِيه المعرفة الاختبارية النابعة من الحياة.
فالوجود حسب صورة الله يُكوِّن معرفة اختبارية للحق نابعة من الحياة في الحق، أما الخطية فبحسب رؤية كل آباء الكنيسة هي ضد نعمة الله، هي استهانة بعطية الصورة الإلهية، الخطية لم تكن اعتداءاً على الناموس الإلهي، لأن الناموس لم يكن قد أُعطِّي بعد. الشريعة كانت في قلب الإنسان (الصورة الإلهية)، ثم أُعيد كتابتها على لوحي الحجر. دعَّم الله النعمة المعطاة للإنسان بالوصية التي قدمها له. الوصية جاءت تدعَّم النعمة لا لكي تخلق النعمة، فالنعمة سبقت الوصية و الناموس.
الإنسان للأسف لم يشأ أن يحيا ليعرف، بل أراد أن يعرف ليحيا. وأكل مِن شجرة معرفة الخير والشر قبل أن يأكل مِن شجرة الحياة. لذلك تعرَّى من الحياة حسب الصورة الإلهية، إن الخطية تبدأ بالمعرفة الكاذبة التي وُلِدت من الذات الإنسانية وبسبب غَوَاية الشيطان، تحولت الطبيعة الإنسانية من الوجود حسب الصورة الإلهية (فترة الفردوس) إلى الوجود حسب العدم (بعد طرده إلى الأرض). الإنسان طلب المعرفة بعيداً عن الشركة في الحياة مع الله فتوغل في إدراك عدميته. عندما تأمل صورته دون الله لم يجد فيها الله الكلمة، وإنما وجد فيها حالته الطبيعية الأولى -أي العدم. فزرع الإنسان الأفكار الخاطئة عن نفسه وعن الله وسقط في عبادة الأوثان. الإنسان خَلق الشر. الشر هو وليد الفكر البشري ويحمل سمات الإنسان خالقه -أي العدم. ملأ الإنسان فراغ حياته بالعدم، الذي هو الشر. الخير يستمد كيانه من الله أصل الوجود. الخير يبقى ولا يفنى.
إن المعرفة التي اقتناها الإنسان بعيداً عن الشركة مع الله، تنبع من خبرة الإنسان -حيث يسيطر الموت- وهي خبرة لا يمكن فصلها عن مصدرها وأهم سماتها الخوف من فقدان الجسد وعدم البقاء. هذا ما يجعل الإنسان يلتصق أكثر بما يراه ويحسه ويسمعه من رغبات الجسد المتنوعة. إننا بعد الطرد من الفردوس نعيش في زمان المعرفة المكتسَبَة خارج الفردوس وبدون الشركة مع الله، لذلك يتعذر علينا أن نرى الله هو مصدر الحياة، في نفس الوقت الذي نظن فيه إننا نحيا ونستمر في البقاء بواسطة المعرفة المكتسَبَة. إن غاية الحياة الروحية الأرثوذكسية هي التحرر من المعرفة المكتسَبَة للإنسان ومزجها بالمعرفة التي من الله لتُطَّهرها ويصبح للإنسان معرفة واحدة صالحة.
ويكمل القديس أثناسيوس أنه كان أمراً غير لائق أن يهلك أولئك الذين كانوا وقتاً ما شركاء في صورة الله. إنَّ تَركْ الله للبشرية الساقطة، التي خُلِقَت عاقلة وأصبحت الصورة الإلهية من مكوناتها، نقول إن تركها لمصيرها بالفناء والرجوع إلى العدم لا يُعلِن صلاح الله ومحبته بل ضعفه (حاشا). لذلك فإن صلاح الله ونعمة الشركة في الكلمة وقوتها هي سبب بقاء الإنسان وعدم فناء الجنس البشري بعد السقوط. فما الفائدة من خِلقة البشر بداية، ثم تركهم يفنون إذا أخطأوا.
”لم تتركنا عنك إلى الانقضاء [الفناء]“
(القداس الباسيلي)
لذلك فمِن مبادئ المسيحية الأرثوذكسية أن الكون لا يحيا ويتحرك حسب قوة القانون الطبيعي وحده، وإلا كان مصيرنا الآن هو العدم، لكنه يحيا حسب نعمة الله التي تضبط كل الكائنات ولذلك السبب وحده فقد ظَل الإنسان حياً بعد سقوط آدم لأنه نال نصيباً في الكلمة -القدرة العاقلة للآب وصورته- عندما خُلِقَ الإنسان على صورة الله، التي إذا تعذر على الإنسان معرفته صار مثل البهائم عديمة النطق. إن أمانة الله نحو خليقته تراث أصيل في علاقة الله بالإنسان. لذلك عندما تقسو الأيام علينا لأسباب قد لا نعرفها فإننا نثق أنها ليست بعيدة عن التدبير الإلهي الذي فيه رجاؤنا.
والسُبح لله.
بقلم د. رءوف إدوارد
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟