المقال رقم 4 من 16 في سلسلة أيها الأسقف.. من أنت؟
لا أقصد من سطوري رسم صورة مثالية عن الأب الأسقف أو إعادة نشر اقتباسات من الوثائق الكنسية، الكتابية والآبائية التراثية عن ماهية الرتبة الأسقفية ومسئولياتها وواجباتها وحقوقها، ولا تحمل سطوري إسقاطاً على شخوص بعينها، سواء القائمين بيننا أو الذين رحلوا.

ما يعنيني في المقام الأول هو ضبط بوصلة واقعنا على اتجاهات الكنيسة حسب الإنجيل وما استقر فيها من قوانين رسولية وآبائية خاصة في قرونها الأولى، قبل أن تضربها رياح الانقسام والتشتت وما نتج عنها من صراعات تحالفت مع الحروب الخارجية التي استهدفت وجودها وكادت أن تقتلعها من جذورها.

في تقديري أن التغيرات الحادة التي اجتاحت مصر في غضون القرن العاشر كانت فارقة في ذهنية الأقباط (المصريون الذين بقوا على مسيحيتهم) وفي تفاعل الكنيسة معها، ومنها أن صارت الكنيسة حصنا يحتمي فيه الأقباط في تحرك عفوي وجودي يقيهم الذوبان في تلك المتغيرات أو الاندثار، كما حدث في كنيسة شمال إفريقيا.

ولعل هذا يفسر لنا الجمع في ذاك الزمان بين اللسانين القبطي والعربي داخل الكنيسة وخارجها، ثم تراجع اللسان القبطي ليحتمى بأسوار الكنيسة مع تعريب الطقوس والصلوات برؤية البابا (1131 ـ 1146م) حتى لا ينفصل أبناء الأجيال الجديدة -في زمنه – عن الكنيسة، وربما يفسر لنا حرص الكنيسة على تسجيل تاريخها خاصة بسبب تمسكهم بإيمانهم، وتلاوته بشكل يومي في صلواتها ال، كطقس كنسي، فيما عرف بال، لتدرك الأجيال المتتالية الثمن الذي دفعته أجيالهم السابقة لكى يصلهم الإيمان نقياً تقوياُ كما تسلموه من الرب يسوع الذي أودعه أناس أمناء وهي الوصية التي تناقلتها الأجيال.

كانت الكنيسة تعبر قمماً وقيعان بقدر حرصها على معايير أمانة من اختيروا لهذه المهمة. وقد أوجز الرسول بولس هذا في توصيته لتلميذه تيموثاوس:

“وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا”

(رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس2: 2)

من هنا تشكلت نواة ال، وهي كلمة يونانية تعني “نصيب”، وتشير إلى أن الشخص اختار أن يكون “الرب نصيبه وميراثه”، وصار هو نفسه مكرس ومخصص لخدمة الرب، وقد أشار إلى الرتب الكنسية كل من القديس إغناطيوس الأنطاكي (من آباء القرن الأول الميلادي)، والعلامة القديس ا الإسكندري (من آباء القرن الثاني الميلادي)، وكلاهما ذكر أن الرتب الكنسية ثلاث هي: الأسقف والقس والشماس، كما ورد ذكرهم أيضا في المسكوني (325م).

وأمامنا ما لا يحصى من المخطوطات والوثائق الكتابية والآبائية التي تتناول ترتيب ومهام ومسئوليات الرتب الكهنوتية الكنسية منذ القرن الأول، يمكن لمن يؤيد التوسع في مطالعتها الرجوع إلى كتابات الباحث الراهب القس ، وفي مقدمتها، كتاب “الكهنوت المقدس والرتب الكنسية”، وسلسلة كتب “”.

وقد اكتفيت هنا بما أورده ال في هذا الشأن متعلقاً بالأسقف في رسالته لتلميذه تيطس (1 : 7 ـ 16)، وأظنها الأساس الذي بنيت عليه أطروحات آباء الكنيسة عبر تاريخ الكنيسة حتى الآن.

لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ كَوَكِيلِ اللهِ، غَيْرَ مُعْجِبٍ بِنَفْسِهِ، وَلاَ غَضُوبٍ، وَلاَ مُدْمِنِ الْخَمْرِ، وَلاَ ضَرَّابٍ، وَلاَ طَامِعٍ فِي الرِّبْحِ الْقَبِيحِ، بَلْ مُضِيفًا لِلْغُرَبَاءِ، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ، مُتَعَقِّلاً، بَارًّا، وَرِعًا، ضَابِطًا لِنَفْسِهِ، مُلاَزِمًا لِلْكَلِمَةِ الصَّادِقَةِ الَّتِي بِحَسَبِ التَّعْلِيمِ، لِكَيْ يَكُونَ قَادِرًا أَنْ يَعِظَ بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ وَيُوَبِّخَ الْمُنَاقِضِينَ. فَإِنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرُونَ مُتَمَرِّدِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْبَاطِلِ، وَيَخْدَعُونَ الْعُقُولَ، وَلاَسِيَّمَا الَّذِينَ مِنَ الْخِتَانِ، الَّذِينَ يَجِبُ سَدُّ أَفْوَاهِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَقْلِبُونَ بُيُوتًا بِجُمْلَتِهَا، مُعَلِّمِينَ مَا لاَ يَجِبُ، مِنْ أَجْلِ الرِّبْحِ الْقَبِيحِ. قَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ نَبِيٌّ لَهُمْ خَاصٌّ:«الْكِرِيتِيُّونَ دَائِمًا كَذَّابُونَ. وُحُوشٌ رَدِيَّةٌ. بُطُونٌ بَطَّالَةٌ». هذِهِ الشَّهَادَةُ صَادِقَةٌ. فَلِهذَا السَّبَبِ وَبِّخْهُمْ بِصَرَامَةٍ لِكَيْ يَكُونُوا أَصِحَّاءَ فِي الإِيمَانِ، لاَ يُصْغُونَ إِلَى خُرَافَاتٍ يَهُودِيَّةٍ، وَوَصَايَا أُنَاسٍ مُرْتَدِّينَ عَنِ الْحَقِّ. كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا لِلنَّجِسِينَ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِرًا، بَلْ قَدْ تَنَجَّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضًا وَضَمِيرُهُمْ. يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللهَ، وَلكِنَّهُمْ بِالأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ، إِذْ هُمْ رَجِسُونَ غَيْرُ طَائِعِينَ، وَمِنْ جِهَةِ كُلِّ عَمَل صَالِحٍ مَرْفُوضُونَ.

(رسالة بولس إلى تيطس 1: 7 ـ 16)

فإذا انتقلنا إلى واقعنا ماذا نجد فيه ولماذا؟

ودعوني أشير إلى أن ، ومن ثم الأقباط، لم تعش عبر تاريخها المديد منعزلة عن المجتمع العام، ولم تتقوقع لتشكل “جيتو” أو “حارة نصارى”، لكنها في سياق مقاومتها للضغوط والاستهدافات المختلفة راحت تدافع عن خصوصيتها الثقافية، خاصة بعد الانقلاب السبعيني على التكوين المجتمعي المصري الفسيفسائي المتراكم الذي شهد إعادة بعث ودعم التيار الأصولي الإسلامي، فأكدت على انتسابها المصري، القبطي، ولم تكن طقوسها وصلواتها بعيدة عن تأكيد ارتباطها بالأرض والزرع والنيل، وانحيازاتها للفقير واليتيم والغريب والضيف، وهي قيم مصرية أصيلة، ورتبت أعيادها، وأصوامها، مع المواسم المناخية والزراعية، وتسرب إليها بعض من العادات الشعبية لعل أبرزها طقوس احتفالات “الموالد” التي لا تختلف كثيراً عن نظيرتها الإسلامية، وبرع في تجسيدها المبدعون صلاح جاهين وصلاح السقا وسيد مكاوي وناجي شاكر، في أوبريت الليلة الكبيرة على مسرح العرائس.

لم تكن سبعينيات القرن العشرين فقط محلاً للانقلاب على طبيعة المجتمع المصري بل شهدت أيضاً تحولات حثيثة في التكوين الهيراركي للهرم الإكليروسي، كانت تنبئ بأن البابا الجديد يحمل رؤية متكاملة مشفوعة بخطة عمل لإعادة هيكلة المشهد الكنسي بجملته، لحساب الإكليروس.

كانت السياسة وأدواتها حاضرة، وإن لم تخني الذاكرة كان مجمع الكنيسة، لحظة مجيء البابا الجديد، يضم ثمانية عشر مطراناً وأسقفاً حصراً، كانوا في غالبيتهم من الكهول والشيوخ، وعند رحيله بشيبة صالحة كان العدد قد تجاوز المئة، قيل في تبرير ذلك أن تقسيم الإيبارشيات يوفر خدمة أفضل، وإن دفع شباب الرهبان إلى مواقع الأسقفية يجدد دماء الخدمة، لكن الواقع كان له رأيًا آخر، ربما أكثر اتساقاً مع وصايا الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس في مواصفات معاونيه:

“وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُدَبِّرَ بَيْتَهُ، فَكَيْفَ يَعْتَنِي بِكَنِيسَةِ اللهِ؟ غَيْرَ حَدِيثِ الإِيمَانِ لِئَلاَّ يَتَصَلَّفَ فَيَسْقُطَ فِي دَيْنُونَةِ إِبْلِيسَ. وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ شَهَادَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ فِي تَعْيِيرٍ وَفَخِّ إِبْلِيسَ”

(رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس 3: 5-7)

فإن استبدلنا بيته هنا بديره؛ كيف يمكن لمن لم يعش في ديره بالقدر الذي يسمح له باختبار الحياة المجمعية ومن ثم التلمذة على شيوخه، كيف يمكنه أن يعتني بكنيسة الله؟ ليس في الرعاية فقط بل أيضاً في التعليم في كنيسة تقليدية آبائية تدقق فيما تعلمه لأجيالها الجديدة، ولعل ما نراه من معارك تغشى الفضاء الإلكتروني وتدخل كل بيت وتربك ثوابت الإيمان سواء عبر بعض الأساقفة أو عبر وكلائهم، تؤكد أزمة الكنيسة التي لا يريد أحد أن يطرحها بشكل صريح.

لن أتحدث عن أموال الكنيسة التي يتم في أحوال كثيرة تبديدها في أمور أقرب إلى السفه، أو في مواسم رِحْلات الأساقفة إلى الشمال بغير داع أو مبرر، أو في مظاهر اقتحمتنا لعل أيسرها ملابسهم المنبتة الصلة بطبيعة الكهنوت المسيحي، والمتحصنة بتأويلات من العهد القديم بغير حق، فلا علاقة بين كهنوت العهدين، وإلا نكون في حالة ارتداد فجة وتهود قاومته كنيسة العهد الجديد.

وننسى أن ما يبددونه قوامه فلسي الأرملة وعطايا البسطاء، وينسى من يبدده بدم بارد تحذيرات الكتاب من فم القديس بطرس في رسالته الأولى:

“ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ الَّتِي بَيْنَكُمْ نُظَّارًا، لاَ عَنِ اضْطِرَارٍ بَلْ بِالاخْتِيَارِ، وَلاَ لِرِبْحٍ قَبِيحٍ بَلْ بِنَشَاطٍ، وَلاَ كَمَنْ يَسُودُ عَلَى الأَنْصِبَةِ، بَلْ صَائِرِينَ أَمْثِلَةً لِلرَّعِيَّةِ. وَمَتَى ظَهَرَ رَئِيسُ الرُّعَاةِ تَنَالُونَ إِكْلِيلَ الْمَجْدِ الَّذِي لاَ يَبْلَى”.

(رسالة ى 5: 2-4) 

ماذا إذا استمرت الرسائل الموجهة بين الأساقفة دون حسم من مجمع الكنيسة “المقدس؟! وهل من تفسير للموقف من ال الذي تشير ظواهر كثيرة إلى أنه موقف مدعوم من داخل هذا المجمع (المقدس)!!.
في فمي ماء.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: أيها الأسقف.. من أنت؟[الجزء السابق] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [٢][الجزء التالي] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [٤]
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨