المثقفون هم أكثر الناس قدرة على الخيانة، لأنهم أكثرهم قدرة على تبريرها
(فلاديمير لينين)
في سنة ١٩٢٧ نشر الروائي الفرنسي الشهير Julien Benda جوليان بندا، كتابه العظيم La Trahison des clercs “خيانة المثقفين”.. ترجمته بالانجليزية ” The treason of the intellectuals ” وكان قد فضح المثقفين الذين يخضعون للسلطة ولمغريات المال والنفوذ والشهرة في مواجهة دورهم المنحاز للناس، واعتبر هذا سقوط أخلاقي أقرب إلى الخيانة!
ولدينا أيضا المفكر إدوارد وديع سعيد Edward W. Said وهو أديب ومُنظر فلسطيني/أمريكي، أصدر كتابا بعنوان مشابه:
“The betrayal of intellectuals: the last texts”
وفي حقيقة الأمر نحن نرى -بصرف النظر عن السياقات- أن هذا المفهوم ينطبق انطباقا شبه كلي على واقع الكنيسة المصرية. فإذا اعتبرنا أن الإكليروس نخبة كان يجب أن تلعب دورا في التعليم الديني واللاهوتي للشعب، فانشغلت هذه النخبة بجمع مكاسب، وارتكن أغلبهم للخرافة ومارس بعضهم الدجل الصريح أحيانًا، في محاولة استثمار حالة الجهل المتفشي في المجتمع المصري عمومًا، والمسيحي خصوصًا! وهذا ليس تعميما فهناك قلة أمينة، تحاول -في حدود إمكانيتهم- ولكن على استحياء.
ولكننا نتكلم على أنه بعد ثورة يناير ٢٠١١م، قد ظهرت نخبة مثقفة دارسة للعلوم اللاهوتية من بعض الشباب وكنا توسمنا فيهم خيرا، ولكن شبت الخلافات البينية، وطفحت على السطح نوازع فردية تمزق شمل الإصلاح الكنسي المنشود! وتبادلت الاتهامات بينهم! ولم يؤدوا دورهم كمثقفين -ليس على مستوى نقدي علماني فحسب، بل وأيضًا ولا على المستوى الديني اللاهوتي. وأنا لا أتكلم هنا عن ما يسمون أنفسهم حماة الإيمان، أو بعض الموتورين الذين وجدوا في السوشيال ميديا ضالتهم، في إعلان سفالتهم وانحطاطهم! بل على بعض من الدارسين الحقيقيين.
فتجد بعض هؤلاء المتعلمين يحاول أن يظهر نفسه أنه هو “الكنسي الوحيد” والشخص الروحاني التقي الورع، وباقي الدارسين خطاه، أو ملحدين متخفيين!
في حين يمارس البعض الآخر نوعًا من التلاعب، وتمييع كل القضايا الجادة، ومحاولة تبرئة السلطة الكنيسة من أي خطأ! فمثلا يُظهر أن هناك صراع بين تياريين أتباع البابا شنودة، وهو منهم بريء بالطبع! وأتباع الأب متى المسكين وأتباع الدكتور جورج حبيب بباوي! ويدخل في محاولة بروزة الأخطاء! وإن كان هناك خطأ عند طرف الممثل للسلطة، فهناك أخطاء أيضا عند الطرف الآخر! بالتالي لا وجود لظلم طرف لطرف، أو في أفضل الأحوال أن الظلم له ما يبرره سواء كان نوازع طيبة وخيرة كالحفاظ على العقيدة وعلى الكنيسة وعلى إيمان البسطاء، أو استفزاز الطرف المناوئ له بالهجوم أو السخرية، بالتالي فبطش السلطة هنا له ما يبرره!
هناك بعض الدارسين كانت تعول عليهم الكنيسة في نهضة حقيقة بجهودهم في ترجمات مفيدة وعميقة أو مساندة التعليم الأرثوذكسي، ومحاولة نقل المناهج التفسيرية النقدية الحديثة إلينا، حتى نواكب الدراسات اللاهوتية الحديثة ونلحق بركاب العلم كما حدث مع الكنيسة الكاثوليكية وبعض الدارسين البروتستانت بالغرب! ومن نافلة القول أن نقول إن هذا لا يمكن أن يهدد الإيمان! فتغير الرؤية التفسيرية أو بعض المفاهيم لا يعني خطأ العقائد الأساسية ولا يمس صميم إيمان الكنيسة! ولكنهم اتخذوا الطريق الآمن، وظلوا يرددون الرؤية التقليدية في كل الأمور، واتخذوا مواقف رجعية على كافة المستويات الروحية واللاهوتية والاجتماعية والإدارية! وأعجبهم لعب دور شاعر القبيلة!
إن الإنسان حين ينشأ في بيئة تراثية معينة يصبح كالذي يقع تحت تأثير التنويم المغناطيسي، فهو يعتقد اعتقادا جازما بصحة المعتقدات التي نشأ عليها حتى لو كانت مضرة، فيصبح عقله مشلولا لا يفهم الدنيا إلا من خلال تلك القوالب الفكرية أو ما نسميه التنويم المغناطيسي.
(عالم الاجتماع العراقي: علي الوردي)
هذا كان يجب أن ينطبق على العوام، ولكن من خيبات الزمان أن يكون هذا حال دارسينا وبعض الحاصلين على دكتوراه في تخصصات لاهوتية!
وتختلف نوازع هؤلاء ما بين من يريد مجد شخصي فيحاول تشويه كل من حوله، حتى تخلو له الساحة -كما يتخيل- أو من له مصالح وارتباطات مع بعض الأساقفة، أو أطماعا في مناصب كنيسة سواء في المعاهد أو الإكليريكيات، أو طمعًا في الانضمام إلى رتبة الأسياد ويصبح كاهنا ذو عمة حصينة لا يمكن أن يمسها أحد!
وآسفاه على أم الشهداء، التي يخذلها أبنائها لخلل نفسي -وهؤلاء معذورين- أو لمصالح ضيقة، وهؤلاء “خيبتهم” أثقل!
ولكننا نظن مع الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي أنه “أكيد فيه جيل أوصافه غير نفس الأوصاف” وسنظل نحن في انتظار الصباح!
سلام على الصادقين.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
مجموعة قصصية بعنوان: "تحوّل"، ٢٠١٩
كتاب: "اﻷقباط والحداثة"، ٢٠٢٢