لسنوات طويلة في زمن المسيح كان يعاني اليهودي المتدين البسيط من الحكم والاضطهاد الروماني، الذي كان يعد المواطن اليهودي عاملا من الدرجة الثانية، محتلا مسلوب الحقوق يخضع بالقهر للسلطة الرومانية الغاشمة، ولم تخلص معاناة اليهودي في احتلال أجنبي فقط، بل عانى أكثر من رجال دين قساة القلوب لم يلتفتوا إلى معاناة أبناءهم في زمن صعب، بل حمّلوهم أحمالا عسرة ثقيلة، وعثرة مريرة، فأثقلوا ظهور الشعب بوصايا نسبوها إلى الله، وهي في الحقيقة من صنع أياديهم الملوثة بدَم شعبهم.
قالوا إن الله أوصاهم بأن كاهن المذبح من المذبح يأكل، ولكنهم لم يأكلوا من المذبح بل كانوا يأكلون المذبح كله، والشعب، وأموال الشعب، حتى ذبائح ونذور وعطايا الهيكل أحلوها لأنفسهم، وأداروها كما ارتأوا وليس كما كان ينبغي، وعوضا عن أن يخففوا عن كاهل أبنائهم من الضرائب الكثيرة المفروضة عليهم، أثقلوا كاهلهم بفروض ثقلية من يعجز عنها، حقّروه واحتقروه وسط الجماعة، بل وأحيانا كانوا يطردونه من وسطهم. لم يشعر يوما اليهودي العادي بأبوة الكهنة أو الفريسيين. كان يشعر فقط بعصيهم وكرابيجهم وهي تترك أثارها الحقيقية أو المعنوية على ظهورهم.
كان يخاف الكهنة، ليس لأنهم رجال الله المختارين، ولكن لسوء استخدامهم لسلطانهم الكهنوتي، فحاولوا رياءهم تارَة أو تجنبهم تارَة أخرى، ووسط اضطهاد الرومان وسلطان الكهنوت اليهودي، وسط الضرائب الباهظة والفروض العسرة، وتحت سوط المحتل وعصا رجال الدين، كانت هناك أزمة أكبر يعاني الشعب اليهودي منها، أنها أزمة أبوة.
تلك الأزمة التي انتقلت بطريقة لا إرادية في نفسية اليهودي البسيط، لتنقل إليه صورة مشوهة لله الآب، فما كان يعرف عن الله سوى تأديباته، لم يكن يشعر بحنو الله أو محبته لأنه لم يتذوقها يوما بواسطة وكلاء سرائره. لذلك عندما رأوا المسيح -الكلمة المتجسدة- رأوا فيه شيئا غريبا لم يكونوا قد رأوه من قبل، ليس بالمعجزات فقط وأنه بسمكات قليلة وقطع خبز معدودة أشبع بطونهم، وليس فقط لأنه شفى أوجاعهم، ولكن لأنه كان يعلمهم بسلطان ليس كسلطان الكتبة والفريسيين، أنه سلطان الحب، ذلك الحب الذي يحرر من الشعور بالخزي، حتى لو كان خزي الخطية.
حبٌ ينقل امرأة سامرية زانية إلى كارزة لكل أهل السامرة. حبٌ يدفع زكا لأن يعوّض كل شخص سلب ماله أضعافا. حبٌ يسمح لامرأة نازفة ينظر إليها المجتمع ورجال الدين إلى أنها نجسة ولا يلتفت أحدهم ليشعر بمعاناتها، ولكن يسوع المحب يشعر ويخفف عنها آلامها. حٌب يقبل توبة امرأة خاطئة جاءت تبلل قدميه بدموع توبتها وتمسحهما بشعر رأسها ولا يقبل غرور سمعان وقساوة قلبه الذي دعا يسوع لبيته لا لشيء سوى التباهي والتفاخر.
يعوزني الوقت إن كلمتكم عن سلطان محبته في قصة المرأة التي أمسكت في ذات الفعل دون الفاعل نفسه من رجال لا يخلو أحدهم من الخطية. امرأة تحكم عليها البشرية بالموت رجما، ولكن رب الشريعة يغفر لها خطاياها. سلطان رب السبت الذي أرادهم أن يفهموا أن السبت جُعل من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت. سلطان تبرأ من قساوة سلطان الكتبة والكهنة والفريسيين وكال لهم الويلات ونعتهم بالمرأين ووصفهم بالوكلاء غير الأمناء الذين نهبوا الكرم وصاحب الكرم، لذلك كرهه كهنة اليهود ودبروا لصلبه والتخلص منه.
وما أشبه اليوم بالبارحة
فتبدأ القصة بترك مباهج العالم والفقر الاختياري، لتنتهي بحساب بنكي وسيارة فارهة ومقر أو مقرات يتباهى بها وفحص دوري أو علاج بالخارج، وكله من عطايا الشعب وعشوره ونذوره. ذلك الشعب الذي يعاني أزمات اقتصادية متلاحقة ومتتالية ولكنه عملا بوصايا الكتاب وإيمانا بأننا أعضاء في جسد واحد رأسه المسيح الذي أوصانا بإخوته. وبدلا من أن نستر الفقراء والمعوزين والمرضى نتاجر أكثر باحتياجاتهم، ونجمع تبرعات باسمهم ثم يرمون لهم الفتات ويستحلون الباقي بتبريرات ساذجة يصفق لها المنتفعين أو الجهلاء.
قصة ساذجة بدأت بترك العالم ورئاساته ليعودون إلينا بسلطان الدين وأنهم نائبي الله على الأرض. كلماتهم لا تناقش ولا ترد. آرائهم غير قابلة لأن يعترض عليها أحد حتى ولو كانت غير منطقية. قصة بدأت بشجرة الطاعة و”ها ميطانيه يا أخي” وتنتهي بآلهة تحكم على كراسي ظنوا أنها أعظم من كرسي الله نفسه. منابر أتخمت بالكلام عن المحبة والتسامح وهم لا يستطيعون تقديم غفرانا لشركائهم في الخدمة الرسولية.
كل شخص يملك سلطان على شخص أضعف منه، يقهره، ولا أحد يملك شجاعة يوحنا المعمدان ليقف أمام هيرودس من جديد قائلا: لا يحل لك. من يجرؤ على الوقوف مع إيليا التسبيتي، أمام أخاب الشرير ليقول له: بل أنت وأهل بيتك من كدروا الكنيسة؟ من يملك السلطة لا يملك الحق، ومن يملك الحق ليس له أدوات لمواجهة من معهم السلطان، حتى إذا جاءهم المسيح فسيتأمر عليه أصحاب المصالح ليعاودوا صلبه من جديد. سيحاربونه ويهيّجوا حوله الشعب. سيدعون أنه سب موسى النبي، والناموس، سيهرطقونه، أو يكفرونه ويحاولون إفرازه خارج الجماعة، وفي النهاية يقدمونه لرومان العصر ليحكموا عليه بالموت صلبا مع القتلة والمجرمين.
أؤمن أن في كل عصر توجد سبع آلاف ركبة لم تنحن لبعل المال، أو بعل الشهرة، أو السلطان. وأؤمن أن الله لا يترك نفسه بلا شاهد، وأن في كل عصر يوجد رجال الله القديسين. هؤلاء وأن بدوا كأنهم عملات نادرة إلا إننا نتذوق من خلالهم الأبوة الحقيقية، أبوة الحب في زمن هرول فيه الجميع نحو سلطان السيادة، هؤلاء الوكلاء الأمناء. أما أولئك فهم ليسوا سوى أُجراء زاغين فسادا وسط الشعب، وليس لهم إلا قول الكتاب: إن لم تتوبوا فجميعكم هكذا تهلكون.
نصلي من القلب لله الآب أن يفتقد شعبه بآباء حسب قلبه، يرعون الشعب بسلطان الحب بعيدا عن هوى السيادة والتجبر. آباء يقدمون صورة حقيقية لله المحب المتواضع، فيجمعون معه ولا يفرقون. يبذلون ذواتهم من أجل رعيتهم، لا رعيتهم من أجل أهوائهم. يعلمون بسيرتهم العطرة، لا بكلماتهم المنمقة. آباء حقيقيين يقال عن كل واحد فيهم كما قيل عن المسيح: كراعٍ صالح سعيت في طلب الضال. كأبٍ حقيقي تعبت معي أنا الذي سقط. آباء قديسون يستطيعون أن يقفوا يوم الدينونة قائلين الذين أعطيتني إياهم، لم نُهلِك منهم أحد.. آمين.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟