كتبت رسالة إلى أحد الملحدين في غضبته على بعض (سلفية) الأقباط:

إن إله المسيحية، سواء كان حقيقة ويقين عند المؤمن الصادق، أو ليس كذلك عند غير المؤمن الذي يعتبر الله لا وجود له بل فكرة وهمية عند المؤمنين، فمن المفترض في هذا الإله -بالتالي تابعيه أيضاً- أن يكونوا أكثر سمواً من المبادئ الإنسانية. ولقد أظهر التاريخ الإنساني فعلاً أن المسيحية كانت ولا تزال المصدر لإلهام العالم في الارتقاء بالمبادئ الإنسانية فوق نفسها.

لكن هذا الافتراض يتزعزع أحياناً كثيرة ليس بسبب الملحدين ولكن بسبب مسيحيين اختطفوا المسيح  ليجعلوه ملكاً على مملكتهم وليس ملكوته، ليتحكموا ويسيطروا على الآخرين من وراء ظهر المسيح، بل وعلى النقيض من تعليمه “مملكتي ليست من هذا العالم“ وفي تضاد مع مواقفه: “أراد اليهود أن يختطفوه ليجعلوه ملكاً، فهرب من وسطهم وأختفي“.

هؤلاء مسيحيون يصنعون لهم مسيحاً هو صدى لخلل نفوسهم. مسيحٌ ”مُختَطَف“ يصورونه حسب أهوائهم، بالتالي لا يجتاز من وسطهم ويغادر خيالهم المريض كما فعل المسيح إلهنا: ”هرب من وسطهم واختفى“.

لقد خلق الله الإنسان غير محتاجٍ إليه في تدبير معيشته ”الله يشرق شمسه على الأبرار والأشرار ويمطر على الصالحين والطالحين“ لكي ما إذا أحبه إنسانٌ وتبعه لا تكون تبعية احتياج بل حب.

المسيح طلب من الإنسان أن يدبّر حياته في هذه الدنيا حسب قوانين وضعها الرب لاستمرار العالم. وميَّز الإنسان بعقلٍ يستطيع أن يعرف به مكنونات عظمة الخلق فيسبح الله بينما يدبر نفسه بنفسه في أمور دنياه. يظهر هذا بوضوح في إجابة الرب لمَن قَصده لحل خلاف على ميراث “من أقامني قاضياً عليكما؟“.

خلاصة الكلام أنه ليس هناك قهر أو تسلط في المسيحية سواء من إله المسيحية أو في حسب المنهج المسيحي الصادق والقائمين على خدمته

انتهت الرسالة وأكمل هنا من خلال قراءة أحداث لقاء المسيح بالتلاميذ أول مرة، يتبادر إلى الذهن سؤال مهم:

– هل التلاميذ هم الذين وجدوا يسوع؟

«قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا الَّذِي تَفْسِيرُهُ :الْمَسِيحُ»، «وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ يَسُوعَ»

– أم أن يسوع هو الذي وَجد التلاميذ؟

وَأَنَا []  لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي [الله] قَالَ لِي

” قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟». أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ، رَأَيْتُكَ».أَجَابَ نَثَنَائِيلُ وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!»

(إنجيل يوحنا1: 48،49)

الإجابة قطعاً هي أن الرب وجد البشر وليس العكس:

“لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ، لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي.”

(إنجيل يوحنا 15: 16)

فقد كنا مثل نجوم تائهة وبلا راع في هذا العالم فاتخذنا الرب أبناءاً له. بينما العكس هو ما حدث عندما أراد أن يجد الألوهة -بغواية الحية- ويقتنيها لنفسه بعيداً عن الرب.  فأكل  من شجرة معرفة الخير والشر وسقط.  فالمسيح إلهنا هو  ”“ وهو الذي يفتقدنا بصلاحه ويمنحنا الشركة في حياته الأبدية من خلال نعمة الاتحاد في بشريته.

المسيح إلهنا، نُمَلِّكه بالإيمان على قلوبنا “ها أنا واقف على الباب وأقرع.. افتحِ لي يا حبيبتي”، لكن لا نَمْلُكه كمسيحيين لأنه مسيح العالم كله وهو الخالق للجميع  قبل أن يكون مخلصاً  لنا. وعندما يصير الإيمان المسيحي قنية وليس شركة، يصير إيماناً هزيلاً يعج بالافتخار الأجوف بإله جعلناه شيئاً نقتنيه. ونتسابق على حب المديح والسمعة والصيت لهذا الإله. وتتصاعد الغَيْرَة و الرغبة في غلبة الآخرين وإذلالهم حتي نكون نحن ”الأعلون“ وليس إلهنا.

هذه هي آفة الأديان في العالم والمسيح بريء من ذلك. المصيبة العظمى أن هذه الآفة عندما تتسرب إلى الكنيسة، فإن أشد أنواعها تكون عند بعض رجال الدين حتي أنهم يحسبون كرامتهم من كرامة المسيح. نرى هذا في ثورة الغضب باسم المسيح باطلاً وعدم التسامح تجاه مَن يخطئ في حق بعض رجال الدين هؤلاء.

ويحضرني  هنا قول المسيح:

”وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ النَّاسِ حَسَنًا. لأَنَّهُ هكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ“.

(إنجيل لوقا 26:6)

واضح هنا أنه بسبب كونهم أنبياء كذبة لذلك اعتبروا المديح أنه قيل فيهم وليس في المسيح، لأنهم في الحقيقة يعتقدون أنهم يقتنون المسيح وليسوا في شركة معه مثل بقية شعب المسيح. فلقد صار هو قنيتهم فيعطونه لمن يستحسنوه،  ويمنعونه عمن يغضبون عليه.

إن الرب يسوع المسيح أعطانا درساً في ذلك عندما خاطبه أحدهم قائلاً ” أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ “، فأجابه المسيح ”لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ“ (إنجيل متى 16:19).  فنلاحظ أن المسيح  هنا لم ينكر أنه صالح ولكنه قال أن ليس صالحاً إلا الله، وبذلك فهو أكد أنه الصالح لأنه الله.  وبهذا فقد أرسي الرب المنهج المسيحي في أن المديح والافتخار هو  لله حتى لو كان الإنسان هو المقصود به من الآخرين.

وقد ألتقط القديس بولس هذا المنهج وقال ”مَن أفتخر فليفتخر بالرب“. فالرب يريدنا أن نفرح ونفتخر بأنفسنا عندما نعمل عمل الرب وأن يكون لنا ملء الوعي إننا قنية الرب وليس العكس.  بالتالي فإن فرحنا هو فرح شركتنا في المسيح العامل فينا.

و السُبح لله.

بقلم د. رءوف إدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

نُمَلِّكه لكن لا نَمْلُكه 1
[ + مقالات ]