وَلْيَفْتَخِرِ الأَخُ الْمُتَّضِعُ بِارْتِفَاعِهِ، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَبِاتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ. لأَنَّ الشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِالْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ الْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ أَيْضًا فِي طُرُقِهِ.

(رسالة القديس يعقوب 1: 9-11)

قد نتعجب في الأعداد (٩-١١) بالإصحاح الأول مما يبدو أنه تغيير في الموضوع الذي يتناوله الوحي عن التجربة لينتقل إلى حديث عن التواضع، لكن عدد ١٢ ”طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ…“ يكشف أن الحديث لا يزال مستمراَ عن التجارِب.

فإن كان الوحي المقدس قد تكلم في الجزء الأول من هذا الإصحاح عن أهمية احتياج وطَلَب الإنسان أن ترافقه الحكمة الإلهية في اختياراته وقراراته اليومية أمام المشاكل والمواقف الصعبة في الحياة، فإنه في الأعداد (٩-١١) يوضح أن طَلَب معونة الحكمة الإلهية لا يستطيعه إنسان متصلف ومُعتّد بقدرته على المسيرة وحده في الحياة بمعزل عن الله ضابط الكل. لذلك يمتدح القديس يعقوب الإنسان المتكل على قوة إلهه ويطلب حكمته، إذ إن ثقة المؤمنين في الرب ورجاءهم باتكالهم عليه هو افتخار المسيحية والمسيحيين.

ثم يتطرق الحديث إلى قدرات المؤمنين الذاتية في مواجهة الضيقة والتجارب، فهناك المتواضع في إمكاناته وسعة طاقاته، و كذلك هناك الغَني. فالأخ متواضع الإمكانات هو إنسان له سِعة محدودة نفسياً وجسمانياً ومادياً وروحياً واجتماعياً، بالتالي فهو لا سند له يشغله عن اللجوء بنقاء إلى عون القدير ليواجه الضيقات والتجارب. وتكون تعزيته غامرة بسماع تطويب الرب له ”طوبي للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات“. فلطالما كانت المسكنة بالروح نعمة تسكن قلوب المساكين بالجسد وترافقهم دون مقاومة الغِنَي الزمني.

إن اتكال هذا الإنسان على إلهه يصير بمنزلة مَسحَنة لاتضاع حاله ورَوحَنه لمسكنة إمكاناته. وهذا كفيل أن يُسخِّر قوي السماء وجندها للذين يطلبون وجه الرب. فقد صاروا بذلك ”مسيحاً“ في مواجهة قوي الشرير :

“وَأَمَّا مَنِ الْتَصَقَ بِالرَّبِّ فَهُوَ رُوحٌ وَاحِدٌ“.

(رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 6: 17).

إنَّ فخر هؤلاء بالرب لا مثيل له إذ يجوز الرب بهم/ وفيهم/ ومعهم التجربة والضيقات وفي اقتدار، بل يصيرون مبررون فيه، مفتخرين به بالرغم من أي خسارة، لأن عَوضَهم هو في المسيح. فالموت وسلطانه ينحَّل أمام رجائهم في الرب إذ يقولون: لأن مسيحنا حيٌّ في السماء فموتانا هم معه.

على الجانب الآخر فإن الأخ الغَني بإمكاناته النفسية والجسمانية والمادية والاجتماعية والروحية، هو أيضاً له نصيب في الافتخار بالرب أمام التجربة والضيقة عندما يضع رجاءه في الرب وليس في غِناه. بل  يتواضع في قلبه كفقير إلى عون القدير. هذا يحسبه الرب له اتضاعاً، فيعزيه بتطويب ونعمة أعظم من غِنى إمكاناته:

وَلكِنَّهُ يُعْطِي نِعْمَةً أَعْظَمَ. لِذلِكَ يَقُولُ: «يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً»

(رسالة يعقوب 4: 6)

إن هذا التفسير للآية ”ليفتخر الأخ المتضع بارتفاعه، وأما الغني باتضاعه“ هو صدى النبوة التي استحضرها الرب عن نعمة العهد الجديد التي ستغمر وتُكَّمِل الجميع، سواء صاحب القليل أو صاحب الكثير، بل وأيضا الذين أصابهم العوج وعدم استقامة الفكر والسلوك فالنعمة لن تنساهم بل تفتقدهم بالمراحم فيستقيمون:

“كُلُّ وَادٍ يَمْتَلِئُ، وَكُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَتَصِيرُ الْمُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيمَةً، وَالشِّعَابُ طُرُقًا سَهْلَةً،”

(إنجيل لوقا 3: 5)

“طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ”.

(رسالة يعقوب 1: 12)

يَستعلِن الوحي المقدس في هذه الآية أن ”تزكية“ الإنسان أمام الله ونوال إكليل الحياة الأبدية هو الهدف من التجربة. أما النتيجة الزمنية للتجربة سواء نجاح أو فشل في هذا العالم فهي ليست بالضرورة هدفاً في حد ذاته.

فالضيقات في هذه الدنيا تأتي على كل البشر -والمؤمنين منهم- منذ أن غادر الفردوس. ولكن الرب يستثمرها رصيداً للمؤمنين لحساب ميراث ملكوت السموات بأن يجعلها تجرِبة لتزكية علاقتهم الشخصية به وشركتهم مع الله.

فالتزكية هي تَرقِّي. بالتالي فإن الضيقة هي مجال يكشف فيه الله للإنسان عن أعماق جديدة للذات الإنسانية والوجود ويَستعلِن له أبعاداً جديدة لتفاعله وعلاقته بحق الله.

بصرف النظر عن الفشل والخسارة الزمنية الفادحة في ضيقة أيوب -وقد حدث ويحدث مثلها كثيراً لآخرين في تاريخ البشر- إلا إن الرب قد استثمرها كتجربة في حالة أيوب كمثال، وكيف صارت في يد الرب نعمة لأيوب تَزَكَّي بواسطتها إلى رؤية الله ”بسمع الأذن سمعت عنك والآن رأتك عيناي“.

بذلك يَستعلِن الرب لنا مقياس النجاح في التجربة للذين التصقوا به، أنه ليس بالضرورة أمراً زمنياً خارج كيان الإنسان يسمع به ويتغير من يوم لآخر بين مكسب وخسارة، بل هو تزكية لا تزول لأنها في كيان الإنسان إذ هي حلولٌ للرب يعاينه الإنسان داخله بالرؤيا القلبية.

هنا استأذن القارئ في استطراد قصير، قد يظنه البعض خروجاً عن الموضوع. فالأبحاث النفسية أزالت الستار عن “لا محدود سحيق”  في كيان الإنسان وكأنه “الفضاء اللامحدود‘ في الكون الحاضر”. حسب رؤيتي الشخصية، فربما هذا ما أشار إليه الفيلسوف “” بمصطلح “الإنسان الأرقى (الأعلى)”.  لذلك فإني أرى أيضاً أن مقولة نيتشه “موت الله” يمكن اعتبارها صرخة يأس من وراء الوعي عن إحباط نيتشه في اكتشاف تلك الأعماق السحيقة التي في داخله كإنسان، التي أعطاها اسم “الفوق إنسان”.

فربما رآها نيتشه في داخله وكأنها “إله غير محدود” بسبب غموض حدودها من وجهة نظره. وأنه يحتاج أن يتعرف إليه حتى يستطيع أن يعرف أعماق نفسه خلال سعيه المحموم ومحاولاته لشفاء نفسه من معاناتها في الحياة (وقد كانت كثيرة في سيرة حياة نيتشه) جرَّاء إحساسه بأنه غير كامل أو مكتمل.

وربما كلام الوحي المقدس هنا يتلامس مع معاناة الفيلسوف “نيتشه” لأن الضيقة التي قلنا إن الإنسان في العالم يجوزها بلا استثناء وكان “نيتشه” واحداً منهم، يستثمرها روح الله القدوس في أبناء الله، فيتلامسون مع اللامحدود في كيانهم (الفوق إنسان). أو بمعنى آخر إنهم يتلامسون مع حقيقة أن الإنسان هو مخلوق إلهي ولن يجد راحته إلا في الالتصاق بالرب اللامحدود الذي خَلق الإنسان على صورته ومثاله (سفر التكوين).

هذا هو معني الفرح الكوني الذي يعيشه الإنسان الملتصق بالمسيح، لأنه في الحقيقة قد تكَمَّل كإنسان بانطباق صورة الله فيه على أصلها ”ذات الله“، وهكذا يكتمل تدبير الله في خلق الإنسان بأن يكون علي مثال الله ”نخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا“ (سفر التكوين).

عند هذه النقطة ينكشف لنا الرباط القوي بين عدد 2  “اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ،”.. وبين عدد 12 “طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ “، وكيف أن الفرح هو  ”كل“ فرح وليس ”أي“ فرح. حيث يعلو الرب بالإنسان خلال التجربة فوق كل متغير أرضي سواء مكسب أو خسارة ويُخرِج  مِن الأكل (التجربة) أُكلاً (الفرح).

لهذا السبب يصف الوحي ضيقات المؤمنين أنها خفيفة بينما هي ليست كذلك في نظر الإنسان العادي:

”لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا“

(رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس 4: 17).

إن احتمالنا للضيقة -التي هي أصلاً آلامنا نحن- غير ممكن إلا بالمسيح  ومع المسيح وفي المسيح، باعتبارنا للضيقات أنها شركة لنا في صليب المسيح، بينما هو الذي  سبق وشاركنا آلامنا أولاً بارتفاعه على الصليب ”بإرادته وحده عنا كلنا“ (صلاة القداس).

إن إلهنا الذي رافق كنيسة العهد القديم -بني إسرائيل- وحملهم كل الأيام القديمة، لا يمكن أن يترك كنيسة العهد الجديد وشعبها في مواجهة الضيقة وحدهم بعد أن أختارها لتكون ضيقته الخاصة بالصليب:

”فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ، وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكَّهُمْ وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ الأَيَّامِ الْقَدِيمَةِ“.

(سفر أشعياء 63: 9)

أقول قولي هذا ويعتصرني الحزن على كل مولود للمرأة في هذا العالم إذ يجوز نفس الآلام بلا عِوَض في المسيح، إلا كونها ألم وخسارة وموت مثلما أوضح نيتشه.

والسُبح لله.

بقلم د. رءوف إدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

رسالة يعقوب: كيف تصير التجربة فرحا؟ 1
[ + مقالات ]