الكتب المقدسة ليست مُنشِئة بل كاشفة لعلاقة الله مع الإنسان . إن الله بشخصه وحضوره الذاتي هو الذي يُنشئ العلاقة ويحفظ دوامها. حدث هذا في كل تاريخ علاقة الله مع الإنسان في تاريخ اليهودية والمسيحية في العهد القديم والعهد الجديد . ثم تأتي الكتب المقدسة تشهد عن مبادرة الله التي حدثت بشخصه وسط خليقته التي أحبها فخلقها، ثم أفتداها بشخصه و يحفظها في حياة شركة معه .
إن الإيمان المسيحي في حد ذاته هو معجزة إلهية بكل المقاييس، لأنه لم ينشأ بقدرات بشرية أو حتي بكتب مقدسة لولاها لَما نشأ. فالإيمان المسيحي نشأ بتدخل الله في تاريخ الإنسان وشهادته لنفسه ، ولا يزال . هذا بدأ في العهد القديم بظهورات الله المتعددة لبني أسرائيل ، والتي هي في حد ذاتها إرهاصات للتجسد الإلهي للرب يسوع المسيح ” الله الظاهر في الجسد“ والذي أفتتح العهد الجديد للإنسان مع الله ، ليصل بحياة الشركة بين الإنسان والله إلي كمالها، ألا وهو إتحادنا به – تبارك أسمه – في شخص المسيح له المجد . وهذا مقصد الله من خلق الإنسان .
ويشهد تاريخ البشر أنه لم يخلوا يوماً من عبادتهم لإله . لذلك فإن الإيمان بوجود الإله سابق علي ظهور الأديان وكتبها المقدسة . لذلك فالأديان ليست مُنشِئة لهذه الظاهرة . وعلي هذا فإن الإيمان بالإله له الأسبقية علي الكتب المقدسة وليس العكس . هنا إجابة التساؤل عن سبب الإيمان بالإله أنه كان ولا يزال هو شخص الله ذاته – جل جلاله .
والحقيقة الهامة المترتبة علي هذا الإستعلان ، هو أن الخوف و الشك من ضياع الكتب المقدسة أو تحريفها هو هاجس الإنسان وليس هاجس عند الإله الحق . فالكتب المقدسة جميعها كتبها بشر ونسخها بشر من بعدهم . وكل ما هو من صنع البشر يحتمل تدخل البشر فيه . أما الإيمان بالله والذي هو مبادرة الله ، فلا تطوله يد تحريف . هذا هو الذي حفظه الله ، ويحكم بصحة الكتب المقدسة وليس العكس .
إن المرجعية الأساسية التي تحكم في نشأة العلاقة بين الله والإنسان هي مبادرة شخص الله، وإستجابة شخص الانسان . ثم تأتي بعد ذلك الوسائل المتعددة من جانب الله والانسان لتحقيق تلك الشركة .
من جهة الله : وأتكلم هنا مسيحياً ؛ فإن المسيحية ( واليهودية ) تقول بأن هناك عمل روح الله القدوس السري في قلب الانسان . هذا وصل إلي درجة الملء في المسيحية ، إذ أرسل الرب يسوع المسيح من عند الآب الروح القدس ليحل ويملأ المؤمنين بتواجده الذاتي . هناك أيضا التاريخ بما تمَّ فيه من حضور شخصي لله سواءً في العهد القديم أو العهد الجديد كما ذكرنا قبلاً . هناك أيضاً رجال الله والنساء القديسات الذين قدَّموا إلي الأجيال التالية شخص الرب حياً من خلال علاقتهم الحية به ومن خلال شركتهم مع المؤمنين . هذا هو مفهوم المسيحية أنها تقوم علي حياة ” التسليم“. وهو ما نقصده في صلاتنا في القداس القبطي ”من جيل إلي جيل وإلي دهر الدهور آمين“ . فالإيمان المسيحي ليس محفوظات في كتب ولكن هو شخص المسيح الحي في تابعيه ، يسلمونه إلي الآتين بعدهم . لذلك فقد نفي الرب يسوع المسيح أن يكون كلامه مجرد حروف في كتاب بل قال ”الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة “، هذا لاتنقله حروف مكتوبة بل روح الله من خلال بشر كتبوا ما قاله لهم ، فأنشأت حياة الشركة في الكنيسة بين الإنسان والمسيح وبالتالي بينهم جميعا في المسيح . إن دليل صدق كتاب المسيح هو حياة المسيحيين نفسها الشاهدة للإنجيل في عدم تعارض. لأن الروح الذي ساق كاتبي الكتاب المقدس هو الذي يسوق حياة المؤمنين . لذلك قال الرسول بولس ” إن كان الموتي لا يقومون فالمسيح إذن لم يقم“ . الموتي هم أنا وانت وأنتي ، إذ تشهد توبتنا وحياة الله التي عادت لتسري فينا عن قيامتنا من موت الخطية . هذا هو برهان قيامة المسيح عند كل مسيحي لمِا هو مكتوب في الكتب .
ومن جهة الإنسان ، فإن أهم ما أعطاه الله من جهة العلاقة بالله هو خلق الإنسان علي صورة الله : ” نخلق الإنسان علي صورتنا“ (سفر التكوين) . لذلك فإن حنين الصورة لأصلها الإلهي لا يزول من الإنسان و كان سابقاً للأديان و كتبها . من هنا نقول إن الله هو أصلٌ في الإنسان قبل الكتب المقدسة .
ونتيجة التلاحم بين الصورة و أصلها – بواسطة عمل االروح القدس – منذ بدء الكنيسة المسيحية ، نشأ فيها ما نسميه ” التقليد الكنسي“. وهو يشتمل علي مواهب روح الله المتنوعة في الكنيسة ( نعمة التمييز والإفراز والرؤية … ) بحيث تكفل قيادة الكنيسة في هذا العالم ، حسبما قال المسيح ” وتحكمون في كل شئ ، ولا يُحكَم فيكم من أحد“. والتقليد يسبق الكتب المقدسة بل ويحكم بصحتها .
هنا نأتي إلي هشاشة القول بصحة دين ما بالإدعاء أن كتابه لم يحرفه بشر بينما كتب الأديان الأخري قد حرفها البشر. أولاً إن أي شئ تصل إليه يد البشر هو قابل للتحريف . هذا لا يقبل المناقشة أصلاً . فما بالك بالإعتماد علي هكذا إدعاء وتصديقه وترديده ومنع مناقشة عدم معقوليته ليكون أساساً لمعتقد ما ؟. إن كل كتاب مقدس لدينٍ ما، يمكن أن يعتمد علي نفس الإدعاء كبرهان لصحته دون دليل مطلق . لذلك أعتبر العالم المتحضر أن موضوع الأديان هو شخصي وليس موضوعي . فعلي كل صاحب دين أن يتعقل في سبب إيمانه بدينه ليكون نابعاً من دينه وليس من الإدعاء بتحريف كتب الآخرين .
هنا يأتي دور العقل الإنساني المتحضر في حماية الإنسان من المعروض في الأسواق من كتب مقدسة لأديان كثيرة . فمن المستحيل أنها جميعاً الطبعة الأصلية الأولي – لو جاز لنا القول – التي تشهد لمبادرة الله المُنشِئة لعلاقته بالإنسان . لكنها بلا شك تقليد للأصلي ، لأن الله واحد ولا يُنتِج تفريقاً وإنقساماً للبشر عن طريق أديان عديدة . إن الأديان متباينة وتتراوح إختلافاتها بحسب إختلاف معطيات البيئة التي نشأت فيها . ولكن بلا شك فإن معظمها كانت ذي فضل علي مجتمعاتها ، علي الأقل في أمور تخص زمانها ومكانها والقوم المعتقدين فيها .
إن أبسط مايمكن للعقل البشري أن يحتكم إليه ليميز صدق أي دين كبداية ، هو أن يكون هذا الدين نصيراً لنعمة الحياة بالتساوي بين البشر جميعاً، وليس نصيرٌ للعنة الموت . هذا لأن العقل السليم يتنافر مع كل ما يتعارض مع صورة الله المطبوعة في وجود وكيان الإنسان . فمستحيل لحق الله أن يتناقض مع نفسه وهو أصل الحياة فيصير قتَّالاً كارهاً للحياة . إن السيد المسيح وصف الشيطان هكذا ” ذاك كان قتَّالاً للناس منذ البدء“. الأمر الثاني الذي يحتكم به العقل الإنساني ، أن يخلو الدين من الخداع أو الكذب . فالسيد المسيح وصف الشيطان أنه ” الكذاب وأبو الكذاب“. إن الحد الأدني لمسئولية العقل الإنساني هو رفض كل ما يتعارض مع خير الإنسان علي العموم إذا تضمنه كتاب أو تعليم لأي دين . أما عن الإيمان بالإله الحق فهو عمل الله ولا يقوي عليه بشر، بل فقط يستجيب له الإنسان.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟