جلس بجانبي وأنا أبحث في الأرض عن لقيمات أسد بها جوعي.
كان لطيف المعشر، هادئا وباسما.
في وجهه طيف لطيف من الارتياح.
يشع منه ضي الألوهة كما لو كان إله فعلا.
هو إنسان مثلي، لم أشعر بأي حاجز بيني وبينه.
ولكن له حضور عجيب يملأ الكون.

بادرني بالحديث: جائع؟
هززت كتفي في بساطة: على ما يبدو.
ضحك في عذوبة ثم أردف: هذا ما يبدو، و لكن كيف ترى أنت نفسك؟
جائع حقا؟
جعلني سؤاله أفكر مليا: لربما أنا فقط معتاد ولست في حالة من الجوع أصلا.

أجبته بأني محتاج ولكني أعتقد أني لست جائعا.
ضحك في عذوبة مرة أخرى: وليس هذا أيضا بصواب، لا تعتقد ولا تشكك في نفسك، أنا مؤمن بك وبما تكونه.
أنت تعلم في داخلك ما هذا الذي تصنعه.

كنت قد تركت بيت أبي وابتعدت عن كل ما كان لي وكنته.
سافرت، رحلت، غادرت بلا وجهة، وتنقلت بلا هدف.
نظر في الأفق حيث كانت الشمس توشك أن تغيب، وقال لي:
أتعلم؟ منذ سنوات عدة، و في وقت كهذا، كنت أتكلم مع بعض الناس الذين اجتمعوا ليسمعوني.
كان مغيب الشمس أيضا وكان لهم وقت طويل يستمعون إلى غير مدركين لمرور الزمن.
كانوا متخمين بما سمعوا، فنسوا شبعهم الجسدي.

تفكرت في عقلي: هوذا ما يصلح لتخفيف حدة الجوع.
طلبت منه أن يكلمني عما يسد عني الجوع كما أولئك.
هز رأسه بأن لا، ثم أكمل: لم أرد أن أصرفهم جائعين.
لقد تبعوني إلى موضع قفر، فكيف لا أشبع إعوازهم كما بشرتهم بمسرة أبي.

حسنا، يبدو شخصا مهما من عائلة ذات شأن.
سألته لسبب في نفسي: وكم كانوا؟
بسط كف يده إشارة إلى رقم ٥.
حسنا، وهل شبعوا؟
هز رأسه بنعم، وقال: ورُفع عنهم فائض أيضا.

لا بأس، قلت له، ها هنا واحد فقط.
ربما يمكنك إعطائي طعامهم جميعا مؤن للقادم.
ضحك وشعرت كما لو كنت ساذجا، ألعلهم لم يكونوا خمسة.
بل أكثر مما تطلب، هكذا أجابني، أعطيك مؤن للأبد لا تجوع بعدها ولا تشعر بعوز أو احتياج.

ولكن…..
فلنطعمك الطعام الذي تحتاجه أولا.
والمؤن؟ والشبع؟ وعدم العوز؟
ذعرت، صعقت، فقدت صوابي وبدأت أبكي.
أرجوك اشبعني، لا قدرة لي على المواصلة.
احتضنني وهمس في أذني: لك هذا وذاك ولا تخف لأني معك حتى تشبع وتتشبع.

لن أترك ما تحتاج لكي ألقي عليك بالمواعظ والكلمات.
أنت لي ونجاتك حياتي ولأجل ذلك جئت.
كيف يكون لك عوز ولي غنى ولا تأخذ؟
كيف يحبك أبي ولا أهتم بك؟
كيف تجوع فأعظك؟
تحتاج فأخبرك كلمات فم؟
تخور فأشير لك على الطريق ولا أحملك؟

لك شبع، ولك غنى.
فلتلحظ جيدا كلماتي وهي حياة: مغفور لك سعيك الضال بعيدا عن أبيك.
مغفورة تلك الخطية التي طرحتك ولن تشبعك.
مغفور لك لا بالصفح فقط عن ماضيك بل بعتقك من سلاسل الحرمان والجوع.

أطعمني وضمني وطمأنني.
أشبعني ونقاني ووضع يده عليَّ.
تحدثنا وطرحت عنده كل ما كان يثقلني.
لم نشعر بالوقت، أصبح الْيَوْمَ الجديد ولا زلنا نتحدث.

قال لي ظل شيء واحد لك.
من عمق ما التصقت به، عرفت قصده سريعا.
وأجبت: أعلم، أبي.
ينتظرك، هكذا قال وهو ينهض مستعدا للمسير.
ينتظرك مُذ غادرت ولم يفقد الأمل أن يراك ثانية.

أخاف من غضبته.
ضحك بحب: غضبة؟!!!
ألم تعلم بعد؟
لست هنا مصادفة، قد جئت من أجلك خصيصا.
هو يحبك ويأمل أن تعي ما لك عنده.

أمله لم يكن أن ينتفع برؤيتك، بل بأن تدرك أنت من أنت.
كان يتكلم كمن له سلطان، ولم أستطع مقاومته.
قلت: أقوم إذن و أرجع إلى أبي.
استدار وأخذ في السير، ناديته: ولكن كيف لك أن تعرف أبي؟
أجابني من البعد: لأنه أبي

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

ماركو إيميل
[ + مقالات ]