أنت هتروح النار.. عارف ليه..؟ عشان عاوز تروح السينما.. بس مش أنت بس اللي هتروح النار.. لاء.. أنت وكل اللي بيحبوا السينما وبيروحوها

(شخصية “عدلي نعيم”، فيلم “”)

كانت تلك كلمات “عدلي” لطفله “نعيم” في فيلم “بحب السيما” الذي تدور أحداث قبيل نكسة 67. قد ﻻ نكون أنا ولا أنت عشنا تلك الأيام، حين كان التلفاز والذهاب إلى السينما حرام بالنسبة لبعض فئات المجتمع، ولكننا سمعنا ممن عاش تلك الحِقْبَة عن الجار الفلاني أو القريب العلاني الذي رفض دخول () بيته متمثلًا في صندوق حديدي يعمل ساعات محددة بالنهار ويشع ضوء يسيطر على عقل متابعيه. الآن، وبعد أن أصبح لشيطان الماضي أبناءا صغارًا نلهو بهم ليلا ونهارًا ولا نتركهم من أيدينا. هل ﻻ يزال التلفاز والسينما حرام؟! بالتأكيد لا، ولكن تحوّل الأمر من كراهية لهذا الشيطان إلى كراهية أن يتكلم -عنك- أحد بداخله!

منذ بدايات السينما في مصر، رأينا فنانين مسيحيين ويهود يؤدون بطولات الأفلام ولا يوجد ما ينغص ظهور أسرة مسيحية هنا ويهودية هناك.. بل أن للأقليات الدينية دورا كبيرًا في بدايات السينما. فلا أحد ينسى دور “توجو مزراحي” كيهودي ولا “نجيب الريحاني” كمسيحي في السينما المصرية مع أنّ أحدا لم يهتم بمعرفة ديانته، على الأقل حتى بَدْء عصر الصحوة، وبدأنا نتساءل عن كل شيء!

ذلك التنوع خفت يومًا بعد أخر عقب خروج اليهود من مصر، وكأن صناع الأفلام والمسلسلات نسوا أن هناك مسيحيين يعيشون نفس الحياة بنفس البلد، وحينما يتذكرون، أو حينما يذكرهم البعض، بدأنا نرى عودة الشخصيات المسيحية للأعمال الدرامية، ولكنها عودة فاترة ليس لها معنى. شيئا فشيئا أصبحت الصورة النمطية للمسيحي في كل الأعمال هي صورة الطيب الوطني اللطيف “ابن الرب” الذي إذا لطمه أحدهم على خده الأيمن حول له الآخر.. كم أزعجتني تلك الصورة المثالية بمثاليتها.

كانت صورة المسيحي الكيوت، محل سخرية منا كأقباط أو بعضنا على الأقل.. كنا نقلد تلك الشخصيات بدلا من أن يقلدوننا.. ولكن يبدو أن هناك بعضا ممن أعجبته تلك الصورة النمطية المزيفة، واتخذوا من تلك الشخصيات الكارتونية مثالًا فقلدوها، فأنتشر حولنا ذلك النموذج ببطء شديد وسط فئة كبار السن بالتحديد، ذلك المسيحي المستأنس، “ابن الرب”، بتاع “سلام ونعمة”، وتعايشنا مع ذلك في كلًا من الدراما والواقع  للأسف.

حتى جاء عام 2000 بمسلسل “أوان الورد”… بوووووم… أيمكن أن تتزوج مسيحية من مسلم؟

تمت مقاطعة المسلسل من قبل الأقباط مع دعاوى قضائية كثيرة ضد “” تسببت له بأزمة قلبية.. ومناشدات بوقف عرض المسلسل.. على المستوى الاجتماعي، منعني أهلي من مشاهدة المسلسل وكنت حينها بالخامسة عشر من عمري، ولكنى شاهدته في خُلْسَة منهم ولم أجد ما يضايقني أو ما أعتبره غير طبيعي، فتلك ليست المرة الأولى التي أسمع عن سيدة مسيحية تزوجت بمسلم أبدًا.. كنت بذلك العمر شاهدت واقعتين.. أينعم أهل الفتاتين قاطعوهم للأبد و لكنه يحدث في أرض الواقع، فلما الاعتراض؟

انتوا يا بهايم ياللي تحت.. انتو يا بهايم ياللي فوق

(شخصية “عدلي نعيم” وشخصية “نعمات بشرى”، فيلم “بحب السيما”)

حتى أتى عام 2004 وأسامه وهاني فوزي يقدمان لنا فيلم “بحب السيما”… الذي غير ديانته من المسيحية إلى الإسلام للزواج ب… بوووووم مزدوجة…

فيلم جميع شخصياته أقباط، لأول مرة.

لأول مرة نرى القبطي شخص عادى.. يشتم.. يكذب.. يضرب.. يخون.. كبني أدم طبيعي.. وليس كشخصية كارتونية تقدم مواعظاً أخلاقية للأطفال. فأول كلمات البطل “محمود حميدة” في شخصية “عدلي” هي: “انتوا يا بهايم ياللي تحت”، والمشهد الذي يليه أول كلمات بطلته “ليلى علوي” في شخصية “نعمات” هي: “انتوا يا بهايم ياللي فوق”.

ولكن تلك الصورة الحيّة لم تعجب أحد.. فانهالت البلاغات للنائب العام مطالبة بوقف عرض الفيلم، وتوجيه تهمة ازدراء الأديان لصناعه!!!
لما؟؟؟ وكانت الردود المحفوظة:
“مطلعين الست بتخون جوزها”،
“مطلعين العيال بيبوسوا بعض فى برج الكنيسة”،
“مطلعين المسيحيين بيشتموا وبيكدبوا”،
“الأبطال بيكلموا ربنا بطريقة وحشة وسوقية”،
“يعني إيه يقول لربنا أنا مش بحبك؟”.

وكانت تلك مبررات الجميع للهجوم على الفيلم. باختصار أنه فيلم مُسيْ للأقباط بكافة طوائفهم.. كنت على وشك دخول عامي العشرين حين شاهدت الفيلم وأعجبني جدا.. لأول مرة أشعر أن الأقباط أحياء على شاشة السينما، يسبون ويلعنون ويخونون ويغضبون أحيانا من ربنا، وأنا قد شاهدت كل ذلك من قبل في مجتمعي من حولي، فلماذا إذن الإنكار؟ لماذا لا يعترض المسلمين على الأعمال التي يكون شخصياتها مسلمون يشتمون ويسبون ويسرقون؟ لماذا أغضبكم “عدلي” حين قال لربنا “أنا ما بحبكش”، ولم تتعاطفوا معه حين كان يطيب خاطر الطالب الفقير ويضرب مدير المدرسة من أجله ويعطيه من أمواله.. لماذا أغضبتكم “نعمات” حين خانت زوجها ولم تتعاطفوا معها حين قال زوجها “استغفر الله العظيم” بعد انتهائه من ممارسة الحب معها، والذي لم يكن يتضمن لا حب و لا وقت كافٍ حتى نطلق عليه ممارسة من الأساس.

لماذا لم نتناقش بخصوص رسائل الفيلم و تساؤلاته؟
هل تحب الله أم تخافه؟
هل العلاقة الجنسية بين الزوجين نجسة؟
حين يخدع زوج زوجته قبل الزواج وتكتشف ذلك بعدها.. هل من حقها الطلاق؟
هل الفن حرام؟
هل مواجهة الواقع -بالفن- حرام؟

في الواقع لم يهتم أحد برسائل الفيلم، فقد أراد الجميع الرجوع لصورة المسيحي الكيوت بتاع “ربنا يباركك” و “الرب معكم”.

حملة الترهيب التي تعرض لها صناع الفيلم أتت بثمارها للأسف، واتخذ صناع السينما والدراما التليفزيونية منذ ذلك الحين جانبًا يجنبهم صداع الأقباط… لأن ببساطة:

القبطى المخلص للرب ما يعرفش يكدب

(شخصية “فانوس” في فيلم عمارة يعقوبيان 2006)

أين ذهب المسيحي البلطجي؟ 1فرأيناه يرص المزة ويلم زجاجات البيرة الفارغة ويترك الشقة لـ”زكي الدسوقي” حين تأتيه عاهرة ما.. لم ينزعج الكثير من الأقباط من الفيلم طالما بالنهاية فانوس يقول “والمسيح الحي”.. هكذا أحسست صناع العمل يعاملون تلك الشخصيات الكارتونية على حذر.. حتى عندما كان “ملاك أرمانيوس” يغرى “بثينة” بالمال حتى تجعل “زكي” يمضى على ورقة تمكنه من الشقة حين يموت.. تجنب صناع العمل غضب الأقباط من دناءة شخصية “ملاك” بجملة واحدة:

ده أنت اللي سماك ملاك ظلمك.. أنت مش قبطي.. أنت شيطان متخفي وسط القبط

(شخصية “بثينة” لـ “شخصية”ملاك أرمانيوس”، فيلم “عمارة يعقوبيان”)

(ها نحن رصدنا شخصية قبطي وضيع، ولكنه لا يمثل جميع الأقباط، ونحن نؤكد على ذلك بشكل واضح حتى لا يغضب أحد)

وهكذا كل الأعمال منذ “بحب السيما” حتى الآن، إما أن تلتزم بصورة المسيحي الكيوت، أو ترصد ما تشاء من سلوكيات ذلك القبطي مع توبته في النهاية أو تبرير فعله بأنه يختلف عن باقي الأقباط، ولا داعي للدخول في القضايا الشائكة مثل فيلم “واحد صفر” 2009.. فسوف تنال ما نالته إلهام شاهين من مضايقات لا حصر لها.

منذ دخولي لذلك المجال في 2014 تمنيت أن أكتب عمل درامي يستعرض قضايا تخص الأقباط فعلا على أرض الواقع، وتخيلت أني أستطيع أن أكون بجراءة أسامة وهاني فوزي.. وكانت الصدمة الأولى في 2017 حين شاركت في عمل رمضاني، وكنت المسئولة عن ورشة كتابته، وكان بالعمل يوجد أسرة مسيحية، فاقترحت أن تكون بصورة مختلفة غير نمطية، وحددت قضية ما نتناولها داخل تلك الأسرة، وبالفعل تم كتابة المشاهد من قبل صديقتي المسلمة لأني لم أرد أن أكتبها.. فأنا لن أكتب “الرب يبارك” و”الرب معكم” بالتأكيد. نوهت لها فقط عن المشكلة أو الموضوع الذي سوف يتم طرحه وكتبت هي المشاهد، وحين عُرض المسلسل اكتشفت أن تلك المشاهد التي تعبّر عن أزمة داخل الأسرة حذفت، أو لم تصور من الأصل، وأصبحت تلك الأسرة تعبر عن المسيحي الكيوت الخاوي عديم الطعم الذي ما دام أشعرني بالخجل.

لم أيأس.. كتبت عمل خاص بي في نفس العام وعرضته على أكثر من شركة إنتاج ونال الاستحسان جدا، ولكن كانت الجملة التي سمعتها من أكثر من منتج: “بس الكلام ده هيجبلنا مشاكل مع الكنيسة والمسيحيين ويمكن العمل يتوقف”. كثير من المنتجين يرفضون خوض المشاكل مع الأقباط حتى وإن كانت السيناريست قبطية، فذلك لن يجنبهم المشاكل.

والسؤال هنا: لماذا يرفض الأقباط أن يكونوا بشراً (في الدراما طبعاً فقط!)؟ لماذا يتمسكون بصوره مزيفة عن أن المسيحي شخص لطيف، بيفرق شعره على جنب، مبتسم دائماً، لا يشتم، ويرتكب الخطأ على حذر وبخجل شديد لأنه ابن الرب!

هل يعتقد فعلا الأقباط أنفسهم يستحقون تلك الصورة الملائكية؟ إذا من أين أتى صبري نخنوخ؟؟ أنظر حولك وتابع الأخبار سوف تجد بسهولة المسيحي المنافق والنصاب الذي يسرق حق أخته في الميراث، الذي يبيع زوجته لراغبي المتعة.

لا تشتكي من أنك “مواطن مهمش”، في حين أنك أرهبت صناع الأعمال بألا يتكلموا بخصوص مشاكلك الحقيقية، وحجّمتهم بصورة المسيحي الهادئ. لماذا تغضب حين يعاملونك على أرض الواقع بنفس الطريقة؟ فأنت “حضورك خفيف”، لا تترك أثر بمشاكلك البسيطة!! بل أنت غير موجود أصلا.

أكثر من 50 عملاً دراميًا تم إنتاجهم في عام 2021. أرصد لي عملا واحدًا كان فيه العنصر القبطي ظاهر دراميًا !!!! لن تجد.. فأنت غير موجود.. غير موجود في الدراما التي تعبر عن الشارع المصري بمختلف فئاته وانتماءاته.. أنت غير موجود، وأنت السبب للأسف.

من أين أتى الهوس بالصورة المثالية؟؟
لو أراد الله تلك الصور لحجب هنا قصة إنكار بطرس له وخيانة يهوذا! ماذا يحدث إذا تراءى لي اليوم أن أصنع فيلماً عن مكيدة داود ضد ؟ حين يسرق زوجته بعد أن أعجبته؟ حين تلصص عليها من على السطح وهي تستحم؟ وكان عقابه أبشع حين نام ابنه إبشالوم مع جواريه على السطح أمام الشعب!!

هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ، وَآخُذُ نِسَاءَكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ وَأُعْطِيهِنَّ لِقَرِيبِكَ، فَيَضْطَجعُ مَعَ نِسَائِكَ فِي عَيْنِ هذِهِ الشَّمْسِ. لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ».

(سفر صموئيل الثاني12: 11، 12)

هل حينها سوف تضطر أن ترفع قضية على الرب نفسه لحذف تلك القصة من الكتاب المقدس قبل أن تقاضيني؟

وبالنهاية عليك أن تعترف أنك لست مثاليًا، وصورة المسيحي الكيوت التي ساهمت في تصديرها، قد ساعدت في رسم صورة غير حقيقية عن أنك إنسان ضعيف. فلا تحزن حين تُعامل على أرض الواقع كخيال مآتة، مهمّش، وغير حيّ.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

فيبي أنور
[ + مقالات ]