كان لا يعرف رد الإساءة إلا بالحب، هكذا وصفه من تعامل معه. لم يكن يسمح لأحد أن يُقبِّل يده، وﻻ يقبل الميطانيات، ويجلس في أخر الصفوف. لم يكن له مقرًا فخيما ينبأ عن رئاسة لديره، بل قلاية فقيرة كنذور الرهبان. وفي أواخر أيامه حصل على منصب مراقب بلجنة الحوار اللاهوتي، لكنه لم يمارسه، إذ قتل بعد حصوله على المنصب بفترة قصيرة جدا في ظروف غامضة. فمن هو الأنبا إبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار؟ ولماذا يستنكر عليه بعض الأساقفة لقب الشهيد؟
وفقا لكتاب “الأنبا إبيفانيوس الوارث روح أنبا مقار”، قد نشأت مجموعة صغيرة لعدد من الرهبان يعارضونه في الدير، وقد أنشأ هؤلاء الرهبان مجموعة على “الواتساب” يتبادلون فيها رسائل الانتقاد والسخرية من رئيس الدير. فطلب إليه بعض الرهبان المقربون منه أن يأمر بإغلاق هذا “الجروب”، فأجاب ببساطة: أنا أحترم حرية الرأي، ومن خلال الحب وليس الإكراه، سنكسبهم
.
وعندما تجاوزت المجموعة حدود اللياقة، طلب منه أحد الشيوخ أن يطردهم من الدير، فرفض قائلًا: أنا أب ولست مدير إدارة، لا أنام بالليل وأنا أفكر وأصلي من أجل خلاص هؤلاء
.
انتقده كثير من الرهبان على صبره في عقاب المتمردين، إذ كان يرفض وضع قوانين للعقاب، ويقول: ينبغي أن نربحهم بالمحبة
.
سأل أحد الرهبان في إيطاليا الأنبا إبيفانيوس عن الرهبان المشاغبين في دير الأنبا مقار. فرد إبيفانيوس:
“الصبر هو المحبة، لذلك يقول الرسول أن المحبة تصبر على كل شيء. الله نفسه يتمهل علينا جدًا لأنه يحبنا. ما أسهل عليَّ أن أطرد مثل هؤلاء المشاغبين، ولكن بعد ذلك سيجدون أنفسهم في الشارع. إنما أرجو أنه بالصبر و المحبة، و لو بعد عشر سنوات، سيتوبون.”
(الأنبا إبيفانيوس، كتاب: “الأنبا إبيفانيوس الذي أحب الرهبنة”)
ترجم العديد من كتابات الآباء من لغاتها الأصلية، وله العديد من الأبحاث، كان من آخرها بحث عن قَبُول معمودية الكاثوليك. ودائمًا ما كان يستخدم الكتب والمراجع في محاضراته وأبحاثه، ويشجع المستمع على إعمال العقل وعدم الانسياق وراء العقل الجمعي لينتقد كل ما لا يتفق مع الضمير والمنطق حتى إن كان صلاة طقسية مر عليها قرون، منها صلاة تحليل المرأة التي تقال في طقس المعمودية. المرأة ليست دنسة، وثمة نصوص بحاجة للإلغاء. هكذا كان يبدي آرائه بصراحة شديدة.
انتقد عبادة الكتاب المقدس تحت مسمى العصمة المطلقة. محور حياتنا ليس نصًا ننصاع له ولا نحيد عنه. هكذا علم أن كلمة الله هي المسيح لا الكتاب المقدس.
كان نادرًا ما يرتدي ملابس الأساقفة، وفضل أن يرتدي ملابس الرهبان في ديره حتى إن كثيرًا من الزوار كانوا يظنون إنه راهب عادي.
لذلك، شكّل وجوده تهديدًا وجوديًا لمن يعلمون بوجوب تقبيل أيادي الإكليروس والسجود لهم، من يشجعون الشعب على عدم القراءة وإخضاع العقل لله، كي لا تنفتح أعينهم وينتقدون سلطتهم وإمبراطوريتهم التي بنوها على أكتاف شعب جاهل، واغتاظوا جدا فور تعيينه في لجنة الحوار المسكوني.
بعضهم، وهم من أعمدة “أسقفية الشباب” التي يشرف عليها نيافة اﻷنبا موسى، اتهموه بالتحرر والانفتاح والقبول لمن ﻻ يقبلهم المتشددون، وكتبوا رسائل كراهية على صفحاتهم، ومنهم من افترش على السوشيال ميديا سجادة صلاة ليطلب هلاكه من الله، قائلين صراحة: “قصّر يا رب أيامه الشريرة”.
أما البعض اﻵخر وهم من أعمدة جماعة “حماة اﻹيمان” التي كان يرعاها نيافة المتنيح اﻷنبا بيشوي، مطران دمياط اﻷسبق، وهي جماعة نشأت من معهد الدراسات القبطية وقادت حملة لهرطقة اﻷنبا إبيفانيوس قبيل مقتله بشهرين، فقد هللوا فرحين فور اغتياله. فهم كانوا يريدون خطاب طائفي عدائي يصنف المختلف تحت فئة الهراطقة لينعموا هم فقط بصفة الطائفة الناجية المحظوظة، لا خطابات تحث على قَبُول الآخر والإصلاح.
اللافت للانتباه أن محبيه تحدثوا عنه كثيرًا منذ مقتله في يوليو ٢٠١٨ حتى الآن، لكنهم، لم يذكروا له معجزة واحدة. لم يألفوا تماجيد أو تراتيل له، ولم يشيدوا أي مزار يتربّحون بواسطته. وعلى العكس، نجد من يصفوه بالمهرطق، قد حولوا قاتله إلى قديس! له مزار يمتلئ بصوره، والعديد من التماجيد والأيقونات والمعجزات المختلقة والمثيرة للسخرية والاشمئزاز. فقط اكتب في محرك البحث معجزات إشعياء المقاري، وستجد مهازل مثل شفاعته القوية لإصلاح أعطال الهاتف والغسالات. وهو قاتل، ولص، أجهض فتاة بعد ممارسة الجنس معها واعترف بذلك وهناك تسجيلات قديمة له تثبت ما فعل. لكن، حقدهم الدفين وكراهيتهم للنور تدفعهم لذلك. فهم ضحايا خطاب أصولي، ضحل قائم منذ سنوات عدة.
كل الأفكار العاهرة تسمي نفسها الآن مبادئ وتزني بالحقيقة.(بهاء طاهر، الحب في المنفى)
لا يحتاج النور لما يدل على وجوده. لذلك، لا ينعم القديسون بحق بهذه الهالة المزيفة؛ لأن ظهور الله فيهم هو المعجزة.
ولا أجد أبلغ من تصريحات الأنبا رفائيل حول القضية لتصف الخطاب الأصولي الذي أتحدث عنه. طوبى للقاتل؛ فهو في السماء سواء قاتل أو مظلوم. الموضوع بسيط، وجملة واحدة بإمكانها إنهاء المشكلة!
“القاتل يا بخته سواء قاتل أو مظلوم. لأن اللي بيعدم بيقول أذكرني يارب متى جئت في ملكوتك“
“إبيفانيوس قتيل عايزين يحسبوه علينا شهيد. الشهيد هو اللي بيتقتل دفاعا عن إيمانه لكن ده واحد اتقتل في ظروف جنائية غامضة“
(نيافة الأنبا رفائيل، أسقف عام وسط القاهرة)
في الحقيقة قد قُتل إبيفانيوس وهو يدافع عن إيمانه فعلًا، إيمانه بقداسة بيت الله الذي أراد أن يطهره من كل مظاهر الزنا الروحي، وسرقة مال اﻷغنياء، والتجارة بآمال الفقراء. أراد استعادة رهبنة القرون الأولى حين كان الرهبان بسطاء لا يمتلكون أراضي وعزب وقصور وسيارات أو ثمة أدوات رفاهية. فنُبذ وشُتم ولُعن من أجل استنارته وعلمه وإيمانه هذا. وتسامح مع قاتله الذي اعتدى عليه وهدده بالقتل، وكان يعيش معه وهو مُهدد، لإيمانه بالمحبة.
افتح سنكسارك يا نيافة الحبر الجليل، واقرأ عن شهادة يوحنا المعمدان الذي اعتبرته الكنيسة شهيدًا، وهو لم يقتل لإيمانه بالمسيح، بل لأنه قال كلمة حق لهيرودس حين أراد أن يتزوج من امرأة أخيه. افتح سنكسارك الذي شجبت قراءة إحدى المكرسات له على المنجلية يومًا ما، وكأسد زائر رفضت تصرفها الشنيع على صفحتك بفيسبوك. لقد صففت البعوضة وابتلعت الجمل مرارا وتكرار. بكيت غلق الكنائس وقت الوباء ولم تبك أخيك المغدور. فاقرأ وفكر قليلًا قبل أن تخرج علينا بفتاوي غير مدروسة ودماء أخيك الشهيد بعدها ساخنة على الأرض! وسيظل موقفك هذا وصمة عار على الجبين.
أما إبيفانيوس، فتاريخ جديد للكنيسة شرع يكتبه بدمائه، يهدم أعمدة، ويقيم أعمدة، ويكشف ما استغرق القبط فيه من ظلام.
اقرأ أيضا:
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟