في بداية التحاقي بمركز التكوين الصحفي بجريدة وطني سبتمبر 2006، أجرى معنا الأستاذ سليمان شفيق تدريب لطيف في مجموعة الإبداع، بعرض مجموعة متنوعة من الكلمات (15 كلمة)، مطلوب استعباد 5 منهم وترتيب العشر كلمات المتبقية حسب الأقرب لنا، وإضافة الكلمة التي نشعر أنها ناقصة وسط هذه المجموعة من الكلمات، هذا التدريب كان مفيدا في كشف التفضيلات الشخصية لكل شخص وعلاقته بذاته وبالآخر، والكلمة المضافة في النهاية تعبر عما يشعر الناس أنه ينقصهم في حياتهم، وهكذا نفعل دائما على تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة نفس الأمر، فنظهر عليها ما ينقصنا حيث نتظاهر دائما بما ليس لنا، ونحاول أن نبرز للآخرين أننا في منتهى السعادة، فعلى من نكذب؟
حين شاهدت فيلم “the matrix”، خلال مرحلة الطفولة لم أستوعب فكرة أنه يمكن أن تسيطر مجموعة من البرامج الذكية والآلات على البشر وتتحكم فيهم إلى هذا الحد الذي ظهر في الفيلم، لكن بعدها بعدة سنوات أدركت أن السوشيال ميديا فعلت بنا نفس الأمر، في البداية استخدمناها لنجد طريقة نعبر بها عن أنفسنا في وقت لم يكن هذا متاحا بالأدوات التقليدية، ولكن مع الوقت بدأت تأخذ حيزا كبيرا من حياتنا، بل أصبحت حياتنا كلها عليها، نقضي ساعات طويلة في ممارسة عادة الـ”scroll down” على شاشة الموبايل، ندخل في سجالات ومشاجرات تنتهي بـ”البلوكات”.
نعم اسمها مواقع التواصل الاجتماعي، وربما الهدف المعلن من وجودها هو زيادة مساحة التواصل بين البشر قبل أن نتحول إلى مجموعة من المعلومات تبيعها الشركات المالكة لتطبيقات السوشيال ميديا إلى المعلنين والشركات الأخرى، بعد دراسة سلوكياتنا، ورغم علمنا بكل هذا إلا إن النداهة ندهتنا، ولن نستطيع التوقف.
بعد انتشار فيروس كورونا وفرض حظر على حركة البشر لمدة عامين، تغير نمط حياتنا، وأصبحت لقائتنا “افتراضية”، وأعمالنا نتممها عبر الفضاء الافتراضي أيضا، وأصبحت مواقع التواصل تقلل التواصل الحقيقي والفعال بين البشر بل وتزيدنا كآبة، ولا زالنا مستمرين وأصبحنا مثل “الزومبي” الذين تشتهر بهم الأفلام الذين يسيرون في اتجاه واحد يفترسون ما يقابلهم، وتشهد التريندات المتلاحقة حالات من الهياج العام بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أخرها مقتل نيرة وكيف ظهر مبررون لمقتل فتاة جامعية بهذه الوحشية لكونها غير محجبة.
قبل انتشار الكورونا، اشتهرت مقابلاتنا سواء مع الأصدقاء أو العائلة بحضور الهواتف الذكية فيها بقوة، وجلوسنا معها أكثر من جلوسنا مع الأحباء والأصدقاء، وابتدع البعض تقليدا بوضع الموبايلات على المائدة وأن أول من سيمسك بتليفونه يدفع حساب المقهى للجميع حتى يبتعد الناس عن مواقع التواصل الاجتماعي والانتباه للتواصل الحقيقي المادي بينهم كبشر.
أعود لتدريب “الكلمة الناقصة” المشار إليه في بداية المقال، الذي مارسته مرارًا وتكرارًًا بصيغ مختلفة خلال ورش تدريبية قدمتها، حيث نلعب نفس هذه اللعبة على مواقع التواصل الاجتماعي، نحاول دائما أن نتظاهر عليها بأننا لدينا ما ينقصنا، فكما لا نهتم بلقاءاتنا الحقيقة مع أحبائنا، هكذا عندما نكون في مناسبة أو احتفالية لا نهتم بقضاء وقت ممتع مع من نحبهم بقدر الاهتمام بالحصول على صور كثيرة كتوثيق للحظة التي لم نعشها أو نستمتع بها، لكن الصورة مهمة لننشرها على حساباتنا بالسوشيال ميديا لنبدو للآخرين أننا سعداء وأننا كنا في احتفالية أو مناسبة سعيدة، وقد نكون في غاية التعاسة في ذلك الوقت.
أصبحت حياتنا مجرد مجموعة “بوستات” أو صور نعيد نشرها للاحتفال بأعياد الميلاد وغيرها من المناسبات، وكأن الحب والصداقة تحولوا لبوستات نقيمها بعدد اللايكات، ولا يهم إذا كانت علاقاتنا حقيقة وممتدة على أرض الواقع أم لا، لكن المهم هو الصورة التي نصدرها إلى الآخرين عنا عبر تطبيقات السوشيال ميديا.
فالصداقة لم تعد كما كانت، ومن يتغزلون في بعض كثيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، بكلمات غير حقيقة مقتبسة من الأفلام والروايات نسمع بعدها عن خبر انفصالهم بعد كل بوستات الحب والهيام، التي يتم تصديرها للآخرين، ولن تفلح هذه الصور والفيديوهات في إبقاء علاقة لم تكن حقيقة بين أطرافها، أو كانت حقيقة ولم تعد كذلك، فأيهما أفضل أن نتظاهر بالسعادة بمجموعة صور لا تعبر عن الحقيقة، أم نعيش علاقات حقيقة قوية بعيدا عن أعين الآخرين؟! القرار لك.
سؤال لماذا وصلنا إلى هذا؟ أعتقد في رأيي إن الإجابة عليه تكمن في انتشار مواقع التواصل الاجتماعي نفسها، فسابقا كنا نبحث عن المشاهير الذين نحبهم وأخبارهم في المجلات أو ننتظر لقاء تلفزيوني أو مشاهدتهم في فيلم أو أغنية، لكن بانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت حياتهم على الملأ للجميع، ومواقع التواصل الاجتماعي نفسها أصبح لها نجومها ومشاهيرها، وكل شخص يستخدم حساباته بكل الطرق ليصل لأكبر عدد من المتابعين والحصول على أكبر عدد من اللايكات، فاتجهنا لتسليع أنفسنا لتحقيق هذا الغرض.
هذا الهوس أصبح مثل “عضة الزومبي” التي أصابت أغلبنا، فدون تفكير نتجه لنشر صور وفيديوهات والأخيرة انتشرت بانتشار أحد التطبيقات المخصصة لذلك ولا أنكر إنني أحد مستهلكيه بمشاهدة بعض الفيديوهات من وقت لآخر من بينها لأشخاص أعرفهم، وأتعجب لماذا يفعلون ذلك بأنفسهم باستباحة حياتهم وعرض خصوصياتهم على الملأ إلى هذا الحد!
لذا في رأيي واحد من أسباب الهوس هو تقليد المشاهير، فنحن نتعامل كأننا مثلهم يجب أن نسافر ونذهب للحفلات، لا للاستمتاع، بل لنبدو مثل النجوم، ورغم كل هذا إلا أننا نزداد كآبة وحزنا، ومع ذلك يتحدث كثيرين عن شعورهم بالوحدة.
ينتابني شعورين متناقضين، بين الشفقة على البشر لما آل إليه حالنا، وبين شعور إننا نستحق التعاسة التي أصبحنا نعيش فيها، فنحن نجني ثمار ما تفعله أيدينا، بشكل شخصي، كنت أدور في تلك الدائرة منذ عدة سنوات دون توقف، ومع الوقت بدأت أدرك كم التعاسة التي أصبحت عليها من الانجرار في دوامة السوشيال ميديا، وأسعى جاهدا أن أكون ما أريد أن أكون عليه وليس ما تفرضه علينا وسائل التواصل الاجتماعي من صور نمطية، لا أدعي إنني سأخرج منها، بل أحاول أن أتعامل معها بوعي، استخدمها لا أن أدعها تستخدمني، أحاول أن أحيا حياة حقيقية على أرض الواقع بعلاقات حقيقة من لحم ودم مع من أحبهم، وأحاول إخفاءها عن عيون مواقع التواصل الاجتماعي قدر الإمكان، فأنا أؤمن أن اللحظات السعيدة يجب أن تعاش وتُحفر في الذاكرة، لا أن تكون مجرد صورة صماء على مواقع التواصل الاجتماعي.
هل أنجح فيما أسعى؟ لا أعرف حقا ولكنني أحاول.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.