نعمة الروح القدس في الإنسان: الحلول والامتلاء من الروح القدس.
لقد أنعم الله الآب بحلول روحه القدوس يوم الخمسين وسكناه الأبدي في قلب كل مَن يؤمن بالمسيح وفي سر المعمودية والميرون. أما الامتلاء بالروح القدس فيحدث كلما ألتفت وعي الإنسان لعمل الروح القدس الساكن في قلبه خلال قراءة الإنجيل أو الصلاة، و غير ذلك من لقاء ينصت فيه الإنسان لهمسات روح الله إليه. كما يحدث أيضاً بلقاء شخص ممتلئ بروح الله، أو زيارة أماكن تقدست بتواتر عمل الروح القدس في ساكنيها أو أحداث مقدسة حدثت هناك.
إن الامتلاء بالروح القدس يماثل حال تلاميذ الرب في أثناء تواجدهم معه فوق جبل التجلي حيث رأوا مجده وحيث كان لسان حالهم أن يبقوا في ذلك المجد إلى الأبد كما ظهر في اشتياق القديس بطرس وقوله “يا رب نصنع هنا ثلاث مظال“.
كنت أصلي القداس الإلهي وكانت نعمة الامتلاء بالروح إذ تعطف بكشف واستعلان معاني في صلاة القداس، التي نسميها الليتورجية، وقد صاحَبها فرح جبل التجلي. وبينما الحال كذلك سمعت عبارة في الصلاة و قراءتها هكذا: “شركة وإصعاد أسرارك الإلهية المقدسة”، وفيها يقدم الكاهن الخديم الشكر لله على كل خيراته لنا في القداس نحن المؤمنين، ولكنه نطقها بتحوير طفيف مِن عنده ربما يقصد توضيح معني الصلاة، فقد أستبدل كلمة “إصعاد” بكلمة “تناول” وقال العبارة : “شركة وتناول أسرارك الإلهية المقدسة“، ودون أن أدري، وكأني نزلت من فوق جبل التجلي!! وانتبهت لتأثير استبدال الكلمتين، فاسترجعت رحلة الروح خلال شركة صلاة هذا القداس، كيف كانت ولماذا تعوقت باستبدال كلمة “إصعاد” بكلمة “تناول”؟
فقد بدأت بسماع صلاة الكاهن الخديم شاكراً الرب: “أعطيتنا هذا السر العظيم الذي للتقوى/ للخلاص”، انتبه الوعي أنها صلاة مسندة بآية الكتاب المقدس “عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد“، وأن القداس الإلهي هو امتداد مزود بيت لحم (بيت الخبز) حيث نحن أمام سر تجسد ابن الله الممتد في الزمن المخلوق حتى هذه اللحظة والكاهن الخديم ونحن نشكر الرب عليه.
فالكاهن يخاطب الرب قائلاً: “أخذتَ خبزاً علي يديك الطاهرتين المحييتين وشكرتَ وباركتَ وقدستَ (الخبز)”، وقبل ذلك كانت صلاة الكاهن أن “اقبل إليك تقدماتنا مِن الذي لك”. فنحن نقدم للرب قرباناً من الخبز، حيث القمح رمز يشمل حياة الإنسان وعمله في الأرض لتنتج قمحاً تقتات عليه حياة البشر، هذا معناه أن الرب يَقبل قرباننا ويأخذه لنفسه ويقدسه ويجعله “جسداً مقدساً له” كما تقول صلاة القداس. فإذا بفرح عظيم غامر، فنحن في القداس الإلهي نقدم للرب ذواتنا وأشخاصنا في شكل تقدماتٍ مِن طحين قمح الأرض، يأخذها الرب ليتحد بها، فالرب هو “حبة الحنطة” التي “وقعت في الأرض وماتت” لأجلنا كما قال الكتاب.
إن الرب بتجسده قد لبس جسدنا ليجوز به ولأجلنا مراحل سر الخلاص، وها نحن مع الكاهن الخديم نشكره ونسبحه على صنيعه “أخذتَ خبزاً / جسدنا على يديك الطاهرتين المحييتين (طبيعتنا أخذتها خاصةً لك) وشكرتَ وباركتَ وقدستَ (أجسادنا/ الخبز)”، ونفس هذا المعنى يأتي في موضع آخر بصلاة القداس هكذا “باركت طبيعتي فيك“.
كما قال آباء الكنيسة الأوائل أن “كل من يلبسه المسيح يخلص“، فكل مائت لابد له أن يحيا بمجرد دخول رب الحياة فيه، فهكذا عادت الحياة بالتجسد الإلهي إلى الإنسان (الذي انفصل عن حياة الله فدخله الموت)، وقد قال الكتاب عن سر تجسد المسيح أنه “السر العظيم الذي للتقوى“، لأن القداسة والتقوى لا يشتريها إنسان ولا يستحدثها، فهي تخص الله وحده فقط وليست بيد إنسان بل يعطيها الله للإنسان، كنعمة يأمر بها للذين يحبونه “كونوا قديسين لأني أنا قدوس“.
نأتي الآن لتلك العبارة سبب هذا المقال “شركة وإصعاد أسرارك الإلهية المقدسة” فهي عبارة تلخص سر التجسد والخلاص الإلهي الذي فيه أخذ الرب طبيعتنا ولبسها جسداً له و تمم فيها مراحل خلاصه لنا: التكفير/ البراءة/ التبرير/ التقديس/ التمجيد (Theosis/ تأله الإنسان بالاتحاد بناسوت المسيح).
إن الرب الإله قد شاركنا طبيعتنا البشرية بتجسده الإلهي في بيت لحم، وكل إلهي هو غير متغير لا يزول، بالتالي لا يتكرر لأنه ممتد فوق الزمن المخلوق، إن جسد الرب في مزود بيت لحم نراه ممتداً -دون تكرار- في يوم الخميس الكبير حيث قدمه الرب لنا “خذوا كلوا هذا هو جسدي”، وأيضاً في سر الافخارستيا في كل قداس “أصنعوا هذا لذكري”، “مَن يأكل جسدي ويشرب دمي يكون فيَّ وأنا أكون فيه”، إن ذِكرى الرب ليست ذكرى عقلية بل حضور شخصه كما أعلن لتلاميذ بعد قيامته “جسوني وأنظروا”.
في إنجيل يوحنا الإصحاح الأول يقول المسيح: “مِن الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله تصعد وتنزل علي ابن الإنسان (المسيح)”. فجسد ابن الإنسان قد صار “طريقاً حياً” ممتداً إلى السماء (عبرانيين ١)، فقد فتح الرب بتجسده طريق الملكوت وصرنا في المسيح “أهل بيت الله“، وهو قال لنا “ها ملكوت الله داخلك“، فالكنيسة هي أنتم المؤمنون باسمه، فهي “مسكن الله” على الأرض و”بيت الملائكة”، ونحن نعيش الملكوت منذ الآن، لذلك، نصلي في القداس قائلين: “والحجاب / الحاجز المتوسط نقضته (الذي يحجب السماء وأهلها عن الساكنين في الأرض) والعداوة القديمة هدمتها.
وتأسيساً علي كل ذلك الحق الإلهي في صلاة القداس فإن العبارة سبب المقال تكون (شركة وإصعاد أسرارك الإلهية المقدسة) لأنها تشير إلى شركة واتحاد مستمر -بين ناسوت المسيح الإله وبين بشريتنا نحن المؤمنين- يمتد من بيت لحم إلى حيث المسيح جالس الآن في مجده عن يمين الآب، هذا يؤكده الروح القدس لنا في كل قداس بواسطة سر القربان/ الافخارستيا، الذي يشرح قول المسيح (إنجيل يوحنا الإصحاح الأول) أن تجسد المسيح ووجودنا فيه هو سر أبدي يمتد من بيت لحم مروراً بيوم الخميس الكبير ويوم الصليب والقيامة ثم صعود الرب إلى السماء بجسدنا وطبيعتنا فيه بعد تقديسها “أقامنا معه وأجلسنا في السماويات” إلى يمين الآب.
ثم نختم صلاة القداس الإلهي بتسبحة وطلبة على فم أبونا وهو يرش إلى أعلى ماء غسل أواني تقدمتنا للرب ويقول “يا ملاك هذه التقدمة/ الصعيدة الطائر إلى العلو بهذه التسبحة أذكرنا أمام الآب ليغفر لنا خطايانا“. وقد أجاب الروح عن تساؤل آخر في هذا القداس عن معني صلاة الليتورجية المقدسة التي يصلي بها الكاهن الخديم مخاطباً الرب: “نقدم لك قرابينك مِن الذي لك، على كل حال، وفي كل حال، ومن أجل كل حال”، فرغم أنها (قرابيننا) ونحن الذين نقدمها في القداس، إلا أننا ندعوها (قرابينك)، لأنه كما شرحنا في المقال أعلاه أن الرب يقبل ذواتنا، بواسطتها، ليتحد بنا فقد لبسها الرب خاصة له بتجسده “أخذتَ (يا رب) خبزا على يديك الطاهرتين..”، فصارت له. وأيضاً لأن ذواتنا التي نقدمها كقرابين لله في القداس هي في الحقيقة صنعة يداه، فيشير الكاهن إلي ذلك بقوله “نقدم لك مِن الذي لك“.
ويضيف الكاهن أن طبيعتنا البشرية كانت للرب (علي كل حال وفي كل حال ومن أجل كل حال). فانتبهت إلى ثلاث أحوال مرت بها خليقة الإنسان:
الحال الأول: “نقدم لك قرابينك مِن الذي لك (على) كل حال”، هذه حال طبيعة الإنسان عند خلقها (على) صورة الله ومثاله.
الحال الثاني: “نقدم لك قرابينك مِن الذي لك.. (في) كل حال”، هذه حال طبيعة الإنسان عندما لبسها المسيح “الله الظاهر (في الجسد)”.
الحال الثالث: “نقدم لك قرابينك مِن الذي لك.. (من أجل) كل حال”.
هذه طبيعة الإنسان عندما أكمل الرب غايته بتدبير الخلق والخلاص لنا فصار “الله الكل في الكل” بنعمة اتحاد المؤمنين بالخليقة الجديدة الإنسانية في المسيح يسوع. هذا ما يسميه آباء الكنيسة (ثيؤسيس/ التأله/ Theosis) .
والسُبح لله.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟