المقال رقم 4 من 6 في سلسلة يهوة والشرق اﻷدنى
سيتناول هذا المقال أسطورتين من أشهر أساطير الخلق القديمة وإعادة تقديم سفر التكوين لهما بصورة جدلية (Polemical Retelling).
الأسطورة البابلية (إنوما إليش)

كُتبت تلك الأسطورة بين ١٢٠٠ إلى ١٨٠٠ ق.م، ويعود أقدم لوح أثري لها لعام ٧٠٠ قبل الميلاد، وتدور الأسطورة حول تعظيم الإله الذي بدأت عبادته في بابل عام ٣٠٠٠ ق.م. تبدأ الأسطورة بعبارة: عندما في الأعالي، لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل، لم يكن هناك أرض، تتطابق تلك العبارة مع بداية سفر التكوين في البَدْء، خلق الله السماوات والأرض، من حيث البَدْء بشبه جملة، والحديث عن السماء والأرض، تلك الأسطورة مكتوبة على سبعة ألواح، ستة منهم ل، تمثل ستة أجيال من الآلهة. ويتم خلق الإنسان في اللوح السادس.

تقول الأسطورة إنه في البَدْء لم يكن هناك سوى المياه، وتلك المياه تنقسم إلى محيطين: محيط المياه العذبة المتمثلة في الإله “أبسو” ومحيط المياه المالحة المتمثلة في الآلهة “” التي يعني اسمها الغمر أو الأعماق، وتبدأ نشأة الكون من اتحاد “أبسو” مع “تعامة” بالزواج، وينجبان الآلهة الطيبة والشريرة، وينزعج الزوجان من ضجيج الآلهة الصغيرة، فيقترح الزوج على زوجته أن يقتلا أبنائهما حتى يستريحا.

وتوافق “تعامة”، لكن تتدخل الآلهة “إيا” وتفشل ذلك المخطط، وتقتل “أبسو”. تقرر “تعامة” الانتقام لزوجها وقتل جميع الآلهة، فتذهب الآلهة الصغيرة إلى الإله “مردوخ” إله الريح طلبا للمساعدة، وهنا يقرر “مردوخ” التدخل للسيطرة على ثورة “تعامة” التي تصورها الأسطورة كمياه ثائرة تعيث في الكون تخريبًا، ويشترط عليهم أن ينصبوه سيدا للكون في المقابل، وتوافق الآلهة. يطلق “مردوخ” ريحا عاصفة فوق “تعامة”، ويستطيع السيطرة على جنونها ثم ينهي حياتها. ويبدأ “مردوخ” في بناء الكون من جديد، ممسكًا بجسد “تعامة” المائي وفاصلا المياه إلى نصفين، نصف للسماء ونصف للأرض.

أعتقد أنك بدأت الآن في الربط بين قصة التكوين والأسطورة البابلية. ففي التكوين، لا يوجد سوى مياه سحيقة قبل الخلق، والكون في حالة دمار، يدخل الله فيخمد تلك الحالة، لكنه لا يدخل في معركة ولا يحارب مثل “مردوخ” لكنه فقط يقول عبارة “ليكن” للشيء فيكون، يرف الله بروحه على وجه المياه كما رف “مردوخ” بريحه على “تعامة”، ويفصل بين مياه ومياه، مياه تحت الجلد، ومياه فوق الجلد مثلما فعل “مردوخ” بجسد “تعامة” المائي.

تعلق د. ، أستاذة العهد القديم ب، أن كلمة “الغمر” في الكتاب المقدس تدعى بالعبرية Tehom وهي قريبة جدا من كلمة Tiam (اسم تعامة Tiamat في الأسطورة).

وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ

(تكوين 1: 2)

بعدما يشيد “مردوخ” أساسيات الكون، يخلق آلهة (تتضمن الشمس والقمر) ويطالبها بالعمل على تنظيم الكون، لكن الآلهة تتقدم بالشكوى لأن الأعمال المطلوبة كثيرة للغاية. ويقرر القمر إشعال ثورة لأنه مل من الإضاءة، وهنا يحل “مردوخ” الأزمة بخلق البشر من الدَّم (دَم معاوني “تعامة” الذين قتلهم) ليكونوا عبيدا فيساعدوا الآلهة في مهامها. وهنا، تنتهي الأسطورة التي اعتاد البابليون أن يقرأونها في احتفالات بابل القومية.

إن أردنا التحدث عن الاختلافات بين النصين، فسنجد نص الأسطورة يصور البشر كعبيد في نظر الآلهة، وأبناء الآلهة كمصدر إزعاج يقلق الآلهة التي تقرر قتل أبنائها، والآلهة كوحوش تتصارع معا على المناصب. أما النص اليهودي، فيقدم الخالق وكأنه يرسم لوحة بديعة بسلمية شديدة ويبدي إعجابه بحسنها، يخلق البشر ليخدمهم ويطعمهم هو ويجلب لهم الحيوانات فيسمونها، عكس المفهوم الطبيعي. البشر هم أصدقاء الذي يحب أن يبادلهم أطراف الحديث. يقدم التكوين نظرة ه بين الذكر والمرأة بخلق المرأة من ضلع لتكون رفيقته، ويزيل الطابع الأسطوري الغامض عن المياه، والشمس، والقمر، وباقي الخليقة. فلا يبقى لها ذلك الطابع المرعب؛ لأن يهوه يعمل على ضبط الكون، وله سلطان عليه.

الأسطورة السومرية: ملحمة جلجامش

هي ملحمة قديمة كتبت في عن الملك السومري “” من “” الذي ربما حكم في وقت ما خلال الجزء الأول من حِقْبَة الآسرات المبكرة (2900 – 2350 قبل الميلاد). تم تأليف الملحمة بين عامي 2000 و 1800 قبل الميلاد، قبل كتابة التكوين بقرون، فقد تم اكتشاف أجزاء في العراق تعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وهناك نماذج أولية أقدم لأجزاء معينة من الملحمة.

تصف القصة “جلجامش”  كملك شرير مستبد، ولديه هوس بالجنس، ويعتدي على نساء مملكته، يصرخ البشر إلى الآلهة طالبين النجاة من قبضة الملك الظالم. ثم تستجيب الإلهة “أرورو” وتقرر التصدي لجلجامش فتخلق إنسانًا من الطين يدعى “”، وهو يشبه “آدم” في صفات كثيرة: فهو مخلوق من الطين، يتسم بالبراءة والقوة، يعيش حياة حرة ويرتدي أمساحا من جلود الحيوان، شبه عار لكن بلا خجل، ويأكل من خيرات الأرض بلا تعب، في وئام تام مع الطبيعة والوحوش التي يلعب معها ولا تؤذيه. لذلك، تقرر الإلهة “أرورو” أن “إنكيدو” ينبغي له أن ينضج وينسلخ من طبيعته الطفولية لأنه لن يهزم “جلجامش” وهو في تلك الحالة البدائية. ترسل له بائعة هوى تدعى “” كي يمارس معها العلاقة الجنسية ومن خلالها تنفتح عيناه على العالم.

وبالفعل، يعيش “إنكيدو” معها ستة أيام وسبع ليال ثم يخرج من حالة البراءة السابقة، ويصبح مثل الآلهة. ومن بعد ممارسة العلاقة، يفقد وحدته مع الطبيعة ويصير ضعيفًا أمامها، تقتسم المرأة ثيابها وتغطي جسده العاري، لأول مرة بملابس، وحين يلتقي بأصدقائه الحيوانات والوحوش يفروا من وجهه خائفين لأنه يملك الحكمة الآن ولا يعد واحدًا منهم!

لبث انكيدو يتصل بالبغي ستة أيام وسبع ليال
وبعد إن شبع من مفاتنها
وجه وجهه إلى ألفه من حيوان الصحراء
فما أن رأت الظباء انكيدو حتى ولت عنه هاربة
وهربت من قربه وحوش الصحراء
ذعر انكيدو ووهنت قواه
خذلته ركبتاه لما أراد اللحاق بحيواناته
أضحى انكيدو خائر القوى لا يطيق العدو كما كان يفعل من قبل
ولكنه صار فطنا واسع الحس والفهم
رجع وقعد عند قدمي البغي
وصار يطيل النظر إلى وجهها
ولما كلمته أصاخ بأذنيه إليها
كلمت البغي انكيدو وقالت له:
صرت تحوز على الحكمة يا انكيدو وأصبحت مثل إله
فعلام تجول في الصحراء مع الحيوان؟

(ملحمة جلجامش)

وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ».

(تكوين 3: 22)

تخبرنا القصتان أن الحرية الأدبية لها ثمن باهظ، خروج آدم وإنكيدو من حالة الطفولة وفردوس البدائية أعطاهما الألوهة -النضج، والقدرة على خلق الحضارة، والعمل الجاد لكسب الرزق. لكن النضج سلاحًا ذو حدين لأنه لا يؤول فقط إلى الإبداع والحضارة، بل أيضًا إلى الخطأ والاضمحلال في أحيان أخرى. لذا، نضحت القصتان بألم الإنسان والخالق بسبب انسلاخ الإنسان من طفولته، لكن الانسلاخ شرا لابد منه لكي يصير المخلوق إنسانًا. تتكرر أيضًا تيمة فساد الطبيعة البشرية وحتمية الموت في القصتين: يعزل الله عن الإنسان في التكوين، وكذلك في نهاية الأسطورة، يموت “إنكيدو” ثم يبحث “جلجامش” عن ترياق للموت كي لا يموت مثل صديقه “إنكيدو” الذي أحبه. وحين يعثر “جلجامش” على نبات بإمكانه إبقاء الإنسان حيًا إلى الأبد، لا ينجح في الحصول عليه إذ يسرق أحد الثعابين النبات منه. نلاحظ أيضا تكرار فكرة مكر الثعبان والحية في القصتين.

المفارقة الملحوظة بين القصتين تتضح في دور المرأتين. تقدم الأسطورة المرأة “شمحات” باعتبارها محرك “إنكيدو” الوحيد؛ فهي المسئولة عن خروجه من حالته الأولى لأنه لا يمتلك الحكمة مثلها، وليس له إرادة في كل ما حدث له. فهي تقوده مثل الطفل وتطلعه على خبايا العالم والملذات الأرضية. أما في التكوين، تؤكد القصة على مسئولية آدم الذي يبدأ الله بمعاقبته قبل والحية بالرغم من تحريك حواء له. تقول د. كرستين هايز إن من يقرأ نص التكوين بدقيق، سيكف عن إلصاق الجرم بحواء وحدها:

يخبر الله  آدم بتحريم شجرة معرفة الخير والشر قبل خلق حواء، مما يعني أن حواء لم تسمع نهي الله بأذنيها مباشرة وسمعت عن الأمر من آدم. نلاحظ أن حواء تقول للحية إن أكل الشجرة ومسها أيضًا يجلب الموت. فمن أين جاءت بفكرة اللمس؟ هل نقل آدم كلام الله بشكل خاطيء أو بمبالغة جعلته يفقد مصداقيته؟ ولذلك، صدقت حواء كلام الحية التي لم تكن شيطانًا بالنسبة لحواء بل أحد حيوانات الجنة!

(د. كرستين هايز)

وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلًا: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ». وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ».

(تكوين 2: 16-18)

فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا».

(تكوين 3: 3)

المفارقة الأخرى هي أن الأسطورة تقدم العلاقة الجنسية باعتبارها بابًا للخروج من الطبيعة، وتشير للمرأة بـ”البغي المومس”، يمكننا أن نقول إن المرأة الساقطة في الأسطورة تؤدي دور الملاك الساقط، فالمرأة والجنس هما الباب المؤدي للعالم المتشعب بالمخاطر، المؤدي في النهاية إلى موت “إنكيدو” البريء الذي سيقتل أحد أبناء الآلهة، فستقتله الآلهة انتقامًا. محللو الأسطورة يشيرون إلى ذلك الجانب المعادي للمرأة والجنس بها بشكل واضح (Sexist). أما في التكوين، نجد أن تغيير الطبيعة مرتبط بالحرية الأدبية، أي حق الخطأ والتجربة، لكن الجنس هو ضمن خطة الله للبشرية، وعلاقة مقدسة.

حديثًا، أضفى المسيحيون معان جديدة على نصوص التكوين، وتأثروا بالفلسفات ال، خالفوا واحتقروا الجنس حتى أصبحوا ينادون بطهارة الأسماك أكثر من لحم الحيوان لأن السمك يتكاثر بلا جنس حسب فهمهم! ولأنهم لم يقرأوا قصص التكوين في سياقها (الأساطير الأولى)، ما زلنا نجد حواء متهمة بإدخال الخطيئة إلى العالم مع أنها لم تسمع قول الله مباشرةً، ولم تعلم معنى قول الحية “عارفين الخير والشر” لأنها كانت في حالة براءة، لا تعرف ما هو الشر في الأساس! لعلك تقول ربما خطيئتهما هي الكبرياء لأنهما وافقا أن يصيرا مثل الله. لكن، إن كان الكبرياء دخل قلبهما قبل الأكل من الشجرة فرغبوا في أخذ مكانة الله، فما هو دور الشجرة إذن؟ فهل خطيئة الكبرياء كانت موجودة ؟

نحن بحاجة إلى إعادة قراءة النصوص بشكل جدلي وفي سياقها الأصلي.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: يهوة والشرق اﻷدنى[الجزء السابق] 🠼 [٣] ثورة النص[الجزء التالي] 🠼 [٥] أساطير الطوفان
[٤] أساطير الخلق 1
[ + مقالات ]