المقال رقم 4 من 4 في سلسلة تعليقات على سفر ملاخي

فَهُوَذَا يَأْتِي الْيَوْمُ الْمُتَّقِدُ كَالتَّنُّورِ، وَكُلُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَكُلُّ فَاعِلِي الشَّرِّ يَكُونُونَ قَشًّا، وَيُحْرِقُهُمُ الْيَوْمُ الآتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ، فَلاَ يُبْقِي لَهُمْ أَصْلًا وَلاَ فَرْعًا.

(سفر ملاخي، الإصحاح الرابع، 1)

اليوم” هو يوم مجيء الرب (ملاخي 3: 1-2 و17). ويُشبِّه ملاخي هذا اليوم بـ “التنُّور” أي الموقد والفرن، وتمثيل يوم الرب بأنه “المُتقد كالتنُّور” يُشير لنار التنقية (ملاخي 3: 2-3) والدينونة (ملاخي 3: 5). وهذا تكلم عنه المزمور: “تجعلهم مثل تنور نارٍ في زمان حضورك؛ الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار(مزمور 21: 9)، “قُدَّامَهُ تَذْهَبُ نَارٌ وَتُحْرِقُ أَعْدَاءَهُ حَوْلَهُ.(مزمور 97: 3). أما المستكبرون وفاعلو الشر (ملاخي 3: 15) هم القش، أي وقود هذه النار.

كانت هذه رسالة : “وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ… هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ.(متى 3: 10-12)، (لوقا 3: 9 و16-17). ويتفق مع ما ذكره الرب يسوع عن أغصان الكرمة غير المثمرة: “كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ… إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجًا كَالْغُصْنِ، فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ، فَيَحْتَرِقُ.(يوحنا 15: 2 و6).

وَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا، فَتَخْرُجُونَ وَتَنْشَأُونَ كَعُجُولِ الصِّيرَةِ.

(سفر ملاخي، الإصحاح الرابع، 2)

إذا كان يوم الرب هو يوم تنقية ودينونة للأشرار، إلا إنه يوم شفاء وفرح وشبع لمتقي الرب. فـ “المتقون” هم “متقو الرب” (ملاخي 3: 16) الذين عبدوا الرب بأمانة ذاكرين اسمه كل حين برغم ضلال وشر المجتمع المحيط بهم، وارتفاع المتكبرين والأشرار من حولهم. ولكن هذا لم يُفقدهم رجاءَهم في عدل الرب وصلاحه.

وإشراق “شمس البر” كناية عن ظهور الرب يسوع المسيح، وإشراقه علينا نحن الجلوس في الظلمة “اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ.(إشعياء 9: 2)، “لأَنَّ الرَّبَّ، اللهَ، شَمْسٌ وَمِجَنٌّ. الرَّبُّ يُعْطِي رَحْمَةً وَمَجْدًا. لاَ يَمْنَعُ خَيْرًا عَنِ السَّالِكِينَ بِالْكَمَالِ.(مزمور 84: 11). فهو “نور العالم(يوحنا 8: 12)، شمس البر צדקה (تصداقاه) أي بِرُّ الله هو العدل والحق justice, righteousness، وبِرُّ المؤمنين أي تبريرهم وخلاصهم من خطاياهم vindication, justification, salvation.

فكما أن الشمس في طبيعتها نارٌ حارقة لكن في الوقت لها قوة شفائية مُطهرة “والشفاء في أجنحتها“، تعطي حياة لجميع الكائنات. كذلك ظهور بِرُّ الله على جميع الأمم سيكون دينونة للأشرار، وشفاء الخلاص من الخطية، وحياة أبدية للأبرار. و”أجنحتها” إشارة لـ “ملاك العهد(ملاخي 3: 1) أي الرب نفسه وتعني الخلاص والنجاة والحماية والمعونة “وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ إِلَيَّ.(خروج 19: 4)، “لِيُكَافِئِ الرَّبُّ عَمَلَكِ، وَلْيَكُنْ أَجْرُكِ كَامِلًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي جِئْتِ لِكَيْ تَحْتَمِي تَحْتَ جَنَاحَيْهِ.(راعوث 2: 12)، (مزمور 17: 8 و36: 7 و57: 1 و63: 7)، “يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا.(متى 23: 37 ولوقا 13: 34).

عند مجيء الرب يسوع المسيح، “تخرجون” تشير للاندفاع للخارج، أو للولادة مرة أخرى للحياة الجديدة متمتعين بضياء شمس البر. و”تنشأون” تشير إلى النمو والتقدم في الحياة مع الله، فنبلغ إلى الإنسان الكامل في المسيح (أفسس 4: 13 وكو 1: 28). “كعجول الصِّيرَة“، والصيرة هي المَعلف أو الحظيرة، مُتغذين على غِنَى ودسم وصايا الله وكلمته المشبعة.

وَتَدُوسُونَ الأَشْرَارَ لأَنَّهُمْ يَكُونُونَ رَمَادًا تَحْتَ بُطُونِ أَقْدَامِكُمْ يَوْمَ أَفْعَلُ هذَا، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. اُذْكُرُوا شَرِيعَةَ مُوسَى عَبْدِي الَّتِي أَمَرْتُهُ بِهَا فِي حُورِيبَ عَلَى كُلِّ إِسْرَائِيلَ. الْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ.

(سفر ملاخي، الإصحاح الرابع، 3-4)

نفس “يوم الرب”هو دينونة للأشرار سيكون نفسه مكافأة للأبرار على أمانتهم. ربما يعاني الصديقون الشر والضيقات التي يضطهدهم العالم الشرير بها، لكن هنا يعدهم الرب بالغلبة على الأشرار، “فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ.(يوحنا 16: 33). فإن التمسك بوصايا وكلمة الله والعمل بها هو سر البركات في الحياة (تثنية 28: 1-14).

هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ،

(سفر ملاخي، الإصحاح الرابع، 5)

أخبرهم الرب أنه سيرسل إليهم ملاكه (ملاخي 3: 1) ليهيئ الطريق أمامه. وهو ما تحقق في يوحنا المعمدان، الذي قال عنه الملاك في بشراه لزكريا الكاهن أبيه: “وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا(لوقا 1: 17)، فليس بالضرورة أن يكون هو شخص إيليا نفسه (ملوك الأول 17: 1- 2مل 2: 15) بل شخص آخر بقوة إيليا وروحه، كما ذكر الكتاب عن إليشع النبي عندما طلب إثنين من روح إيليا عليه (ملوك الثاني 2: 9)، وقيل عنه: “قَدِ اسْتَقَرَّتْ رُوحُ إِيلِيَّا عَلَى أَلِيشَعَ.(ملوك الثاني 2: 15). ولذلك عندما سُئل يوحنا: “إِيلِيَّا أَنْتَ؟” أنكر قائلًا إنه ليس إيليا نفسه (يوحنا 1: 21) في حين أن الرب يسوع المسيح قال عنه: “فَهذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ.(متى 11: 14)، “وَلكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا.(متى 17: 12 ومرقس 9: 13).

فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ. لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ.

(سفر ملاخي، الإصحاح الرابع، 6)

كانت هذه هي رسالة المعمدان لإعداد طريق الرب (إشعياء 40: 3) و(ملاخي 3: 1)، التي تحققت بأنه “يرد قلب الآباء على الأبناء، وقلب الأبناء على آبائهم” في (متى 3: 3) و(لوقا 1: 17). أي يُحوِّل فكر الآباء الأبرار الذين على الرجاء انتظروا المسيح إلى الأبناء الذين في زمانهم يأتي المسيح الرب فيكونوا مستعدين للإيمان به. لذلك كما قال الملاك: “يردُّ كثيرين… ويُهيئ للرب شعبًا مستعدًا(لوقا 1: 16-17).

وهنا ينتهي أخر سفر نبوي في العهد القديم بتحذير نهائي، بأن اللعنة هي المصير الأخير لمن لا يقبل السيد الرب عند مجيئه. وهنا نجد فرق كبير بين أول عبارة وأخر عبارة في العهد القديم. فيبدأ سفر التكوين بعبارة “فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.(تكوين 1: 1)، التي تصف كمال الأيقونة التي رسمها الله بالخليقة وتوجها بالإنسان، نجد ذلك التحذير المخيف باللعنة في خاتمة سفر ملاخي “لِئَلاَّ آتِيَ وَأَضْرِبَ الأَرْضَ بِلَعْنٍ.(ملاخي 4: 6)، وبين هذا وذاك نجد أن خطيئة البشر هي التي أحدثت كل هذا الفرق. فبينما يبدأ التكوين بالقوة العظيمة والكمال في خليقة الرب الإله، ينتهي في ملاخي بالخوف والإنذار باللعنة والانفصال عن الله والحاجة إلى ظهور الرب المُخلص.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: تعليقات على سفر ملاخي[الجزء السابق] 🠼 تعليقات على سفر ملاخي [ارجعوا إليَّ أرجع إليكم]
Tony Marcos
Website  [ + مقالات ]