الوَحْدَةِ كلمة سيئة السمعة في زمننا الحاضر، وهي بمثابة مشاعر قاسية على من يمر بها، خاصة في هذه السنوات الصعبة التي نعيشها فقد مررنا بأحداث عنف وأزمات اقتصادية ووباء وإرهاب، وكلها تؤدي ليس للشعور بالوَحْدَةِ فقط، وإنما باكتئاب عام على مستوى المجتمعات وليس الأفراد فقط، وفي هذا الزمن الذي يعد الاكتئاب فيه ثمة حياة فالوَحْدَةِ ليست سيئة كما نظن بل قد تكون فرصة أن يختلي الإنسان بنفسه، وأن ينأى بنفسه عن ضغوط العصر ويحافظ على سلامه النفسي قدر الإمكان.
والوَحْدَةِ معناها العزلة والانفراد بالنفس، وكلمة “وَحْدَه” معناها وحيد لا رِفْقة له، أو مُنْفَرِد عن الآخَرين، على انْفِراد، ووفقًا لمقال بموقع مستشفى الأمل فإن الوحدة هي ذلك الشعور القوي بالفراغ والعزلة، حيث يشعر الفرد بالوحدة والعزلة حتى لو كان وَسْط جمع من الناس، وفي حالة شعور الشخص بالوحدة تجده يستغني عن الآخرين ولا يريد مناقشة أي شيء أو فعل أي شيء مع أي أحد، والوحدة أيضًا هي الشعور بكونك مقطوع عن الآخرين وليس هناك شيء يوصل بينك وبينهم.
وفي بعض الأحيان يجد الشخص المصاب بالوحدة صعوبة أو استحالة في التواصل مع الآخرين، بالإضافة إلى أن المصابين بالوحدة ينتابهم إحساس شخصي ودائم بالملل والفراغِ أَو التجوّفِ الداخليِ، كما يسميه البعض، وذلك الشعور يعد نتيجة حتمية للعزلة عن العالمِ. أو يشعر المرء أنه وحيد في الدنيا لا يوجد من يشاركه همومه ولا يوجد من يساعده على فعل أي شيء، وفي معظم الأحوال لا يستطيع الشخص المصاب بالوحدة أن يعبر عن همومه أو أن يتحدث مع الآخرين بطلاقة، وفي كل الأحوال، أكد علماء النفس أن الوحدة شعور لا يُفهَم من الكلام بل بالتجربة فقط.
وهناك مفهوم عن الوحدة في علم النفس، جاء في موقع “e عربي” يُعرَّفها بأنها التجربة المؤلمة التي تحدث عندما يُنظر إلى العلاقات الاجتماعية للفرد على أنها أقل كَمّيَّة، خصوصًا في الجودة، مما هو مرغوب فيه، يمكن للناس أن يكونوا بمفردهم دون الشعور بالوحدة ويمكن أن يشعروا بالوحدة حتى مع أشخاص آخرين.
ويرتبط الشعور بالوحدة بأعراض الاكتئاب وضعف الدعم الاجتماعي والعصابية والانطوائية، لكن الوحدة ليست مرادفة لهذه الخصائص النفسية. عادةً ما يُنظر إلى مفهوم الوحدة في علم النفس على أنها سمة مستقرة مع وجود اختلافات فردية في نقطة الانطلاق لمشاعر الوحدة التي يتقلب حولها الأشخاص اعتمادًا على الظروف المحددة التي يجدون أنفسهم فيها، حيث يتغير الشعور بالوحدة بشكل طفيف خلال مرحلة البلوغ حتى عمر 75 إلى 80 عامًا عندما يزداد نوعًا ما.
نعم الوحدة صعبة، أعرف شخص انقطعت معه أواصر الصداقة منذ سنوات قال إن “الوحدة بتنهشني” تعبيرا عن جلوسه فترات طويلة بمفرده وعدم تكوينه لأسرة كما اعتاد الناس، نعم الوحدة قاسية ومشاعر يصعب تحملها، لكنها قد تكون أفضل من الوجود وَسْط علاقات مستنزفة وسيئة وتسبب أذى نفسي أضعاف ما تسببه الوحدة.
يتسم عالمنا اليوم بطغيان وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا، وربما أصبحت البديل للعلاقات الطبيعية بين البشر، فمثلما استطاعت أن تقرب البعيد كما نقول، إلا أنها ساهمت في إبعاد القريب، فبدلا من أن نلتقي وجها لوجه كما اعتادنا أصحبت لقائتنا افتراضية بفعل عوامل كثيرة أخرها انتشار فيروس كورونا وإجبار البشرية على التباعد والتواصل عبر وسائل التواصل، ورغم كثرة الأصدقاء الافتراضيين والتعليقات واللايكات إلا أن الاكتئاب أصبح من سمات العصر الحالي، والوحدة هي المشاعر الغالبة على البشر بالرغْم من تلك الضوضاء حولنا.
عن تجرِبة، كلما انغمست في وسائل التواصل الاجتماعي أشعر بالوحدة والاكتئاب مثل كثيرين من ضغط ما نتعرض له يوميا من أخبار وأحداث نعرف بها حتى لو كانت في أبعد نقطة في العالم منا، وكلما ابتعدت عن وسائل التواصل الاجتماعي، وجلست مع نفسي كلما استطاعت الدخول إلى نفسي أكثر ومصادقتها، وتنظيم وقتي ومحاولة الاستفادة به في الأشياء التي أفضلها مثل ممارسة رياضة الجري أو القراءة أو إنهاء المتأخر من العمل أو مشاهدة أفلامي المفضلة، والدخول حالة من السلام النفسي والتعافي مما تسببه السوشيال ميديا من ضغوط.
بهذه الطريقة لا أجد الوحدة أمر سلبي، بل هي فرصة للجلوس مع النفس والهدوء وإعادة شحن الطاقة من جديد، ومن الأفضل الجلوس مع النفس على التواجد مع أشخاص وفي علاقات مستنزفة ومستهلكة للطاقة، خاصة إننا في وقت الأحوال العامة وحدها كافية باستنزاف طاقتنا النفسية، ولا أعتقد وَسْط ما نمر به من أزمة اقتصادية عالمية، ووباء غير في نمط حياتنا تماما، ومستقبل على المحك غير مضمون أي شيء فيه فليس هناك طاقة يمكن استنزافها مع أشخاص وعلاقات من حولنا.
نعم الوحدة شعور سيء لكن يمكن الاستفادة منها وتحويل السلبي فيها إلى أمر إيجابي شريطة أن يكون لدى الشخص علاقات حقيقية على مستوى الكيف، تملأ مساحة التواصل الحقيقية التي يحتاجها كل شخص مننا لتحقيق توازنه النفسي.
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.