يتعامل البعض مع نصوص العهد القديم من منظور الحتمية التاريخية والاستقلال الكلي عما سبقها من نصوص لديانات الشرق الأدنى القديم، وكأن النص الكتابي مجرد، خالي من أي تدخلات بشرية، وشديد الحداثة لأنه منزل من السماء بجملته. بينما يذهب البعض الآخر للنقيض التام بنفي وجود أي اختلافات بين نص العهد القديم ونصوص الديانات الأخرى، ويذهبون إلى أن النص العبري لا يحوي سوى أساطير نقلها كتاب العهد القديم من الديانات الأخرى؛ ويرون أنه ليس ثمة اختلاف بين أسطورة الفيضان السومرية وفيضان نوح، على سبيل المثال.
لكن، بالفحص يتبين أن كلا الفريقين لا يرى الصورة الكاملة ويقع في براثن التطرف، فالطرح الذي يقدمه الفريق الأول (المتدين) جامد للغاية ويضع النص في مأزِق؛ لأنه يتجاهل التشابهات الواضحة بين قصص العهد القديم وأساطير الديانات القديمة التي تسبق العهد القديم بسنين عدّة، وعادة ما يدخل هذا الفريق في حالة هلع فور إدراك الاكتشافات العلمية التي تثبت أن عمر الأرض ليس 6000-8000 سنة كما نستشف من الكتاب المقدس وأنها تبلغ من العمر 4.5 مليار عامًا، وعمر الكون كله نحو 13.6 مليار عاما. لقد اعتاد هذا الفريق التعامل مع النص بحرفية من جهة عمر الأرض والكون بالرغم من معرفته حقائق تناقض معلوماته الكتابية. فعلى سبيل المثال، عمر الحضارة المصرية يبلغ 7000 عام؛ فكيف نقول إن الكتاب المقدس كتاب علمي؟
في عام 2020، انتشر فيديو للقس “كيرلس فتحي”، كاهن الكنيسة المرقسية بالإسكندرية يقول فيه إن الكتاب المقدس كتاب روحي، بالتالي، لا مشكلة في وجود أخطاء علمية به. ومن ثم، تم تحويله إلى التحقيق الكنسي بتهمة الطعن في صحة الكتاب المقدس، وقدم بعدها اعتذارا عن هذا التعليم، فليس هناك منفس للتفكير والبحث، ومحاكم التفتيش لا زالت مستمرة بشكل مختلف. والأنكى هو اندهاشهم من زيادة عدد الملحدين!
أما الفريق الثاني الذي يجرد النص من أي أنفاس إلهية ويسارع باعتبار نص العهد القديم مماثلا تمامًا لما سبقه من ديانات، ربما عليه هو الآخر أن يعيد التفكير في اعتقاده؛ فثمة فروق جوهرية بين نصوص “يهوه” ونصوص “الشرق الأدنى”؛ لأن النص لم ينقل الأسطورة فحسب، بل شذبها ونقحها ليقدم من عن طريقها مفاهيم جديدة. لذلك، علينا أن نسأل أنفسنا: هل الصحة التاريخية للنص شريطة أساسية للوحي؟ ومن أين أتينا بهذه الفكرة؟ ولما لا نعتبر تلك المفاهيم الجديدة -المنقولة عبر الأسطورة- هي الوحي الإلهي؟ على أن نعتبر القصة وعاءا ناقلا (vechile) لا ينبغي أن يكون كاملا أو إلهيا بالضرورة.
لذلك، تهدف هذه السلسلة إلى توضيح عَلاقة التأثر بين نص العهد القديم ونصوص الشرق الأدنى القديم، وتسليط الضوء على النصوص التي اقتبسها العهد القديم من الأساطير القديمة. كما تهدف إلى الإجابة على الأسئلة التالية: هل أحدث النص العبري نقلة تاريخية إنسانية عن طريق إطلاق ثورة عارمة على المفاهيم المجتمعية المتاحة حينذاك؟ وهل ليهوه دور في عملية الاقتباس؟ أم أنها عملية نقل خالية من التدخل الإلهي؟ وهل نجح العهد القديم في السمو بالإنسانية نحو الأفضل، على الرغْم من شريعته التي لا نبالغ إن قلنا أنها تبدو قاسية للغاية؟
“مثل خمر في جرة أريد حفظه، كذلك هو التوراة، محتوى داخل ثوب خارجي، ثوب هكذا يتألف من قصص عديدة. لكننا، نحن، نحن المطالبين بالنفاذ عبر الثوب”
(كتاب الزوهار) [*]
[*] كتاب الزوهار: (זֹהַר كلمة عبرية، تعني الإشراق أو الضياء) هو أهم كتب التراث الكابالي، وهو تعليق صوفي مكتوب بالآرامية على المعنى الباطني للعهد القديم. يعتقد المؤمنون به أنه كُتب في عصور ما قبل الميلاد. ويُنسَب إلى أحد معلمي المشناه הַתַּנָּאִים الحاخام شمعون بن يوحاي، وإلى زملائه [القرن الثاني]، ولكن المرجّح تاريخيا أن موسى دي ليون [مكتشف الكتاب في القرن الثالث عشر] هو مؤلفه الحقيقي أو مؤلف أهم أجزائه، وأنه كتبه بين عامي 1280 و1285. يتضمن الزوهار ثلاثة أقسام هي: الزوهار الأساسي، وكتاب الزوهار نفسه، ثم كتاب الزوهار الجديد. ومعظم الزوهار يأخذ شكل تعليق أو شرح على نصوص من الكتاب المقدَّس، ويضم مجموعة من الأفكار عن الإله وقوى الشر والكون. القضايا الرئيسية التي يعالجها هي طبيعة الإله وكيف يكشف عن نفسه لمخلوقاته، وأسرار الأسماء الإلهية، وروح الإنسان وطبيعتها ومصيرها، والخير والشر، وأهمية التوراة، والماشيَّح والخلاص.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟