قال: "اصنعوا هذا لذكري"، ثمّ رفع عينيه إلى السماء وقالَ: أبتِ، إن شئتَ فاحفظ ذاكرَتهم من الزَّيف! ثمّ دنا إليه تلاميذه مقاطعين صلاته، أمّا هو، فأمال وجهه نحوهم من دون أن تتحول عيناه عن السماء وقال: ستأتي أيّام تتناسون فيها أنّ الذكرى تاريخ، ليس تاريخًا شخصيًّا أو فرديًّا فحسب، بل تاريخ شعب. تاريخُكم ذاكرتُكم، بل مستقبلكم.

سيكون لديكم نوعان من الذكرى: ذكرى الأحداث الماضية، فيها تُسرد الأحداث من مؤرّخين أو شهود عيان. ربّما تختلط فيها ذكراكم الشخصية، فتصبح الذكرى تذكارًا لأيام مضت كانت جميلة وتحمل في تذكارها “نوستالجيا” حنينًا إلى الماضي.
وفي عالمكم ستُصاغ هذه الأحداث سياسيًّا، ودينيًّا، بل وعرقيًّا أحيانًا. سيكون المراد منها فقط السيطرة على حاضر من يسمعونه ويقرؤونه، والذهاب بهم نحو مستقبل يريده ويخططه لهم حاكم مستبد وحاشيته. لن يذكر هذا التاريخ الإخفاقات إلا نادرًا، وسيبجَّل الحاكم ويمجّده حتّى يموت أو يختطف منه السلطة حاكمٌ آخر… وتبدأ مسيرة أخرى من طمس التاريخ، فلعلّ كلّ ما سبق يتحوّل إلى أن يوصف بالعهد البائد.
وتبدأ مرحلة أخرى من صياغة تاريخٍ يهواه ويريده ويملي خطوطه أهل السلطة. يكتب المؤرِّخون ما لا يضعهم في قلق أو مشكلات، وقد لا يكون الحاكم نفسه يعرفهم، ولكنّهم كانوا قد استقبلوا جلّادًا في صدورهم، يجثم عليها حينما يمسكون بالقلم.

التاريخ سيكون تاريخ مختارات، مشوَّهًا ومُضلَّلًا، مزيَّف… سيسعى إلى العبث بذاكرة أمّة بأثرها. تاريخٌ ستكتبه يد الأقوياء، وفي إفريقيا ستكتبه يدٌ بيضاء. سيضع تفاصيله المنتصرون، ولن يكون مجال فيه لأن يتحدّث الضحايا أو المظلومون. سيُقتل الضحايا مرتين، مرة جسديًّا ومرة حينما تُكمَّمُ أفواههم أبدًا عن الكلام في صفحات تاريخكم، فيطويهم النسيان، وتحشو أفواههم صحفُ التاريخ، فلن تعود الآذان تسمع لهم أنينًا! ستدجّن السلطةُ الطاغية الإنسان عن طريق تزوير تاريخه، وهذا ما سيفعله أيضًا المستعمرون.

ثمّ نظر إلى تلاميذه وأردف:
ذكرايَ نوع ثانٍ من الذكرى، ستكون “ذكرى خطرة”. فهي ستكونُ استحضارًا للماضي في حاضركم، ستصبح ذكرى خطرة من حيث أنها ستستطيع أن تنير حاضركم. وسيبدأ الكثيرون قراءة التاريخ من خلال ما يرويه المظلومون والضحايا، وسيشكّ الكثيرون في كل ما يقرؤونه، وكل ما تضعه السلطات بين أيديهم من تاريخ.

سيتذكّر التاريخ هذه الضحيّة. ففيه سيبدأ التاريخ يصبح مرّةً تاريخ الضحايا والضعفاء، وليس تاريخ القتلة والأقوياء. تاريخ الداعين إلى السلام وليس فقط تاريخ من قَتَلوا وقُتِلوا. سيذكر التاريخ رجلَ الطبقة الوسطى اليهوديَّة. الذي حوكم باعتباره مخربً أمام مستعمريه، وخانه أهل وطنه، ونفّذ فيه حكم الإعدام علنًا. فيه ستصبح الذكرى خطرة حيث إن فيه يستطيع الإنسان قراءة التاريخ مرة أخرى. مع هذا الرجل ستصبح الذكرى خطرة، لأن فيه يجد الضحايا والمتألمون والمسجونون تعبيرًا عن معاناتهم. سيصبح تاريخه تاريخهم… وتاريخ كل واحد منكم. إن كل العنف والقتل والقهر والاستبداد لن يستطيع أن يطمس الحقيقة أبدًا، ويكمم أفواه من يصرخون دهرًا.

اصنعوا هذا لذكري..
كلّما أكلتم من هذا الخبز وشربتم من هذه الكأس
كلّما حضرَ ابن الإنسان حيًّا في قلب “اللحظة التاريخيّة”
سيحضر ذاك الذي “نصب خيمته بينكم”
متى كسرتُم الخبزَ، وشربتُم الكأسَ وضعتم ذاكرتكم أمام الله
الحاضر هنا والآن
وقرأتم الماضي بنور الحاضر
وحينئذٍ، تعرفون كيف تُقاوَم ويناضَل ضدّ قوى الشرّ
الكامنة في الحياة اليوميّة.

ستكون ذكرى ابن الإنسان خطرةً…
لأنّ بحضورها سيُلهَم كثيرون، بفاعليّة الحضور
وسيستطيع المقهورون أن يفتحوا أفواههم..
ولعلَّكم إن تذكّرتموه فيهم، وسمعتموه مرةً واحدة،
أصغيتم إليهم..
بعيدًا عن تزوير ذاكرتكم الفردية والجماعية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جون جابريل
راهب في معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب نقدي: ، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: ، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب ال: ومواهب الروح القدس