المشكلة في هذا الخطاب ليست فقط في حدته، بل في بنيته الذهنية نفسها: عقل لا يرى العالم إلا ثنائيًا فجًا؛ إما معنا أو ضدنا، إما صهيونيًا مسيحيًا كامل الإيمان، أو ذميًا جبانًا يخفي الحق خوفًا من الدولة. لا مساحة للتعقيد، ولا اعتراف بتاريخ اللاهوت، ولا فهم للفروق الجوهرية بين الإيمان المسيحي ومشروع سياسي–أيديولوجي حديث اسمه الصهيونية المسيحية.
الأخ رشيد، في هذا السياق، لا يناقش الصهيونية المسيحية بوصفها تيارًا لاهوتيًا–سياسيًا نشأ في سياق أنجلو–أمريكي محدد، بل يحولها إلى امتحان إيمان:
من يرفضها فهو خائن، متواطئ، ذمي، معادي لليهود.
ومن يقبلها فهو “شجاع”، “أصيل”، “لا يخاف”.
وهنا بالضبط تقع الكارثة.
الصهيونية ليست «الكتاب المقدس»
الصهيونية المسيحية ليست المسيحية، وليست “جزءًا لا يتجزأ من الكتاب”، بل قراءة انتقائية متأخرة، ظهرت في القرن التاسع عشر مع التدبيرية (داربي، سكوفيلد). بإرهاصات زمن الفوضى العقائدية البروتستانتية التي تشظت إلى كل شيء ونقيضة في حالة مخزية. فيمكنك أن تجد فيها كل شيء وعكسه وأن بقيت بلا قيمة. وكل محاولات إرجاعها إلى عصر الآباء -كما فعل الأخ رشيد بخفة وطيش وطفولية- ليست إلا تلاعبًا فجًا. وقد قدمت حلقة بعنوان: «ضد الصهيونية المسيحية: رسالة إلى الأخ رشيد»، يظهر فيها مقدار التهافت، بل وتزوير النصوص، لخدمة غاية واحدة: إثبات أن الصهيونية المسيحية “أصيلة” منذ آباء الكنيسة الأوائل، وأنها إنباء بعودة اليهود إلى الإيمان و«الأرض»، بل وجعل استرداد الأرض مقدمة لإيمانهم، ووفاء حرفيًا بوعود إبراهيم.
أيها المصفق الصغير: جاتك خيبة!
وسؤال «نهر مصر» -مرة، وثانية، وثالثة، وألف- هو السؤال الذي لا يريدون سماعه، فيما يضع صغار المصفقين أصابعهم حتى أكواعهم في آذانهم.
من يتشدق بحدود «من نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات» لا يريد أن يُسأل:
ما هو نهر مصر أصلًا؟
ولماذا تجاهل التاريخ اليهودي نفسه هذه القراءة؟
ولماذا لم يعرفها آباء الكنيسة؟
ولماذا لم يُطالب بها بولس ولا الرسل؟
ولماذا تحولت فجأة إلى عقيدة خلاصية في القرن العشرين؟
لأن السؤال يفضح أن ما يُقدم على أنه «إيمان كتابي» ليس سوى قراءة سياسية مُسقطة على النص.
وعليك أن تقبل، يا عزيزي المصفق الساذج، أن هذه “الأرض” -حسب هذا التأويل- تشمل، يا “صغيري”، أجزاء من مصر (إن لم تكن من النيل نفسه)، والأردن، ولبنان، وسوريا، وأجزاء من العراق، والسعودية، بل وحتى تركيا.
فهل مشروع كهذا عقيدة إيمانية، أم إعلان حرب باسم الكتاب المقدس، أيها المصفق الصغير، صاحب فيض المشاعر الجياشة والقلوب الحمراء في زمن الرخص الانفعالي؟
إن هذا الهراء المبين، وبناء أورشليم الأرضية والهيكل، وتدمير المقدسات، لن يترتب عليه إلا حرق كامل المنطقة.
بين حب اليهود والعداء للسامية
كل هذا التلفيق باسم الكتاب، وباسم «حب اليهود» -وهو أمر لا نختلف عليه من حيث المبدأ- بل هو ما يدفعنا لإدانة المسيحية في تاريخها الطويل على معاملاتها الحقيرة لليهود، ولا من إدانة آباء الإصلاح البروتستانتي، الذين خرج منهم الأخ رشيد، بما فيهم مارتن لوثر الذي صار كتابه «اليهود وأكاذيبهم» مبررًا أخلاقيًا ولاهوتيًا للنازية. ويبدو أن الصهيونية المسيحية قد تكون هي الأخرى مرشحة للقضاء على ما تبقى من يهود، بهذا اللاهوت الذي أتمنى على اليهود أنفسهم ألا يقعوا في فخه، لأنه يهدد دولة إسرائيل، وخطر عليهم قبل غيرهم.
فضح القنوات التبشيرية الأمريكية، مسؤولية أخلاقية
لم يعد التيار التبشيري القادم من أمريكا يبشر بالمسيحية، بل بالصهيونية المسيحية. ومن لا يفهم الفارق فليصفق كالأبله، حتى يحترق الغبي بغبائه ويدمر أهله معه. هذه رسالتي إلى مسيحيي الشرق. أما الادعاء بأن الأمر مجرد «نقاش معرفي» أو «بحث جاد محترم»، فكلام صار اليوم -وبعد أن ظهرت الأيديولوجيات خلف كل خطاب- مكشوفًا للعيان، بل فاضحًا.
والحقيقة -لا غيرها- والمعلومة المعروفة للقاصي والداني أن:
لا الأرثوذكس،
ولا الكاثوليك،
ولا الغالبية الساحقة من البروتستانت عالميًا،
ولا الكنائس الإنجيلية التاريخية في مصر،
يعرفون إيمانهم على أساس: «إعطاء الأرض لدولة إسرائيل الحديثة بوصفه تحقيقًا حرفيًا لنبوات العهد القديم».
هذا اختزال فج للاهوت العهدين، وتجاهل متعمد لتاريخ طويل من التفسير المسيحي، الذي رأى في وعود الأرض: إما رمزية، أو مشروطة، أو مكتملة في المسيح، أو منقولة من الجغرافيا إلى الملكوت.
رفض هذا التأويل ليس ذمية، بل موقف لاهوتي مشروع، قديم، وعميق.
خاتمة
لا لمزيد من تديين القضايا السياسية لا إسلاميًا ولا يهوديًا ولا مسيحيًا، ويجب رفض تحويل اللاهوت إلى سلاح ابتزاز سياسي.
الأخطر في هذا الخطاب ليس الدفاع عن الصهيونية المسيحية، بل استخدامها أداة للتخويف والابتزاز:
إن انتقدت الصهيونية المسيحية، فأنت أداة للدولة.
إن رفضت ربط الإيمان بإسرائيل، فأنت خائف.
إن لم تؤمن بأن الله «يعيد اليهود إلى الأرض من نهر مصر إلى الفرات»، فأنت تخفي الحق.
وهنا يُلغى أي نقاش، ويُغلق باب العقل، ويُجرم الضمير.
والمأساة لن ترحم من يصفق بعبط، لمن يضع خزامة في أنفه ليجره إلى التهلكة.
إنها رسالة تحذير من خطر آني، صار واضحًا عيانًا بيانًا، يحيق بالمسيحيين الشرقيين، وبجهلتهم الذين يصفقون لكل ناعق على خراب حال في ديارهم. يوم تدور الدوائر، وعند الملمة، لن ينجو أحد من كل الأديان والطوائف، والأقليات تدفع دائمًا ثمنا مضاعفًا، مهددة فعلا بالوجود نفسه، وللأسف، يوم لا ينفع الأسف.
