أصدر نيافة الأنبا بولس أسقف أوتاوا ومونتريال وشرق كندا بيانًا بشأن ما أُثير حول رسامته لشماسات في كنيسة السيدة العذراء بمدينة كيبك سيتي الكندية، وقال: لم تكن رسامة.. بل كانت تخصيصًا لهن لخدمة تتعلق بالسيدات والمرضى، ولا تتعلق بخدمة الهيكل أو القراءات الليتورجية
، وأضاف نيافته: إن الفيديو المتداول قد تم تصويره قبل بَدْء الصلوات
، لكنه حرص على الإعلان أمام الحاضرين في الكنيسة أن هؤلاء الفتيات ليس مسموحًا لهن بالخدمة في الهيكل أو قراءة أي قراءات ليتورجية، وأن عملهن ينحصر في خدمات الوقوف في الصفوف الأولى مع الشعب أمام مقاعد السيدات، والمشاركة في التسبيح لإتقان الألحان ومردات القداس التي يشارك فيها كل الشعب، ومساعدة المسنين والمرضى من السيدات في الوصول إلى أماكنهن في الكنيسة وفي أثناء التقدم إلى التناول، وتأدية أعمال النظافة في الكنيسة كلما طلب منهن ذلك، وأي أعمال مساعدة في الخدمة الكنسية بعيدًا عن الخدمة الطقسية.
وأكد نيافته أن المناداة التي تمت لم تكن رسامة شماسية
، لأنها لم يتم وضع اليد فيها علي الرأس، بل كانت Recognition، وأضاف نيافته بأنه قد أخطأ “بالطبع” في أن يتم “الـريكوجنيشن” في أثناء القداس، وهو ما اعتذر عنه.
كان البيان الذي أصدره نيافة الأنبا بولس على إثر هجوم صارخ ممن يصفون أنفسهم بـ”حماة الإيمان”، ومن المتحجرين الذين يعتبرون رسامة شمّاسات بالكنيسة -حسب مفهومهم الضيق الجهول- خروجًا على “نظام وطقس الكنيسة الذي تسلمته من المسيح ومار مرقس والآباء الأولين”، ما أحدث بلبلة شديدة ولغطًا ضخمًا بين جموع الأقباط الأرثوذكس، وظهر جليًا في الهجوم والدفاع والهجوم المضاد والرد العنيف ضد نيافة الأسقف على السوشيال ميديا.
لا تعتذر.. لا تعتذر
الحق أنني أود أن أرفع عقيرتي بأعلى نداء قوي ليصل من القاهرة إلى الأنبا بولس في كندا، وأقول لنيافته: لا تعتذر مطلقًا نيافة الأسقف الجليل، فلا شيء يمكنك الاعتذار عنه فيما فعلت.. إن المهاجمين غير الفاهمين يحتاجون إعادة تعليم وإعادة فهم وإعادة تأديب. وكم تمنيت أن تؤكد صحة ما فعلت برسامة شماسات، وتصحح خطأ في المفاهيم، وفي المعرفة بحق الإنجيل للمتغولين بالهجوم عن جهل.
الأساس الإنجيلي
لقد قال الرسول بولس في رسالته لأهل رومية: أُوصِي إِلَيْكُمْ بِأُخْتِنَا فِيبِي، الَّتِي هِيَ خَادِمَةٌ لِكَنِيسَةِ كَنْخَرِيَا
[1]
و”خادم” و”خادمة”، أو “دياكون” و”دياكونيس” في اللغة اليونانية هي نفسها “شماس كامل” و”شمّاسة كاملة” المستخدمة الآن لنفس الدلالة، لكنها في عقول الأصوليين الأرثوذكس مجرد جليسة أطفال أو حكاءة في مدارس الأحد، في حين الرسول بولس يؤكد: “خادمة لكنيسة كنخريا”، أي لكل الكنيسة.. لكل الشعب في الكنيسة.. في كل مكان في الكنيسة.. من باب الدخول إلى الهيكل.
مريم المجدلية كانت من أكثر أتباع يسوع إخلاصًا وخدمة، ومريم أخت مرثا ولعازر جلست عند قدمي يسوع واستمعت إلى تعليمه، وكانت من أقرب الفتيات لخدمته، ومرثا أخت مريم ولعازر، كرمت يسوع باستضافته في بيتها وخدمته، ومريم أم يعقوب وأمهات أخريات رافقن يسوع من الجليل، ونظرن القبر ورجعن وأعددن حنوطًا وأطيابًا لجسده، ما يؤكد تفانيهن في خدمته وإخلاصهن له، اشتركن جميعهن في الخدمة خلال حياة السيد المسيح علي الأرض، وفيبي خادمة كنيسة كنخريا أوصى بها بولس الرسول قائلًا: هي التي كانت مساعدة لكثيرين ولي أنا أيضًا
[2]
لو قصد السيد المسيح إبعاد المرأة عن الخدمة وعن الليتورجيا، لكان الأولى أن يعلم بذلك، وما كان لبولس الرسول أن يرسم فيبي وغيرها شماسات.
الأساس التاريخي
يحفظ تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تأكيدات دامغة علي صواب وصحة رسامة شماسات في الكنيسة، لعل من أقدمها “الديداسكالية” أو “الدسقولية المصرية” التي ضمت “القوانين الكنسية المصرية” في القرن الثالث الميلادي، التي أفردت بابًا مستقلًا لرسامة الشماسات.
كذلك اشتهرت في القرن الرابع قوانين الأنبا تيموثاؤس الأول التي وضعها للكنيسة سنة 381 ميلادية، واشتملت على باب خاص برسامة الشماسات.
أيضًا جمع البابا كيرلس الثالث في القرن الثالث عشر جميع القوانين الكنسية الموجودة في حبريته في كتابه المعنون : “سيرة البيعة المقدسة” (سيرة البطاركة)، حيث ذكر في باب رسامة الشماسات أن “الشماسة” هي رتبة كنسية معتمدة.
وفي القرن الرابع عشر ذاعت قوانين “بن كبر” التي وردت في كتابه “مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة”، حيث أفرد الباب السابع منه لقوانين رسم الشماسات وخدمتهن”.
دلالات الاعتذار
عرض الصديق الدكتور “جميل ويصا” ثلاث دلالات للاعتذار الذي قدمه نيافة الأسقف، على النحو التالي :
1 – أن الأسقف قد تعرض لضغط معنوي شديد فآثر السلامة.
2 – أن البابا لا يستطيع مواجهة المدعين بحماية الإيمان حتى الآن.
3 – أن الأرثوذكسية -كنيسة وشعبًا- لن تبرح جمودها في المدى القريب.
القوة الغائبة في الرئاسة الكنسية
يبدو هذا صحيحًا تمامًا، والحل هو أن تلبس الكنيسة ترس الإيمان، وتمسك بسيف الروح، وتكسب في ذاتها شجاعة المسيح.. فتدافع برجولة وحزم عن صحيح الإنجيل، وتقف بصلابة أمام المهاجمين، ولا تخضع أبدًا لابتزازهم.
لماذا يعتذر الأسقف أصلًا عن فعل لم يكن خطأ.. فرسم شماسات بالكنيسة ليس خطًأ أبدًا ليقدم عنه اعتذارًا، فالاعتقاد بالخطأ هو من رواسب العهد القديم الذي أغلقه السيد المسيح بالفداء.
الحق إن الفكر الذي تسلط في العهد القديم لا يزال يهيمن علي الإكليروس والكنيسة، ومن جهة أخري يهيمن الفكر الذكوري المتغلغل في الإكليروس والكنيسة بمقتضي التأثر الطويل عبر قرون وقرون بالثقافة الغازية، ليتضافر في صنع التحكم، متغطيًا بمقولات متهافتة يدعي أنها قد نقلت عن التقليد المسلم من الآباء في الكنيسة الأولى.
ويؤسس الرافضون الأصوليون هجومهم على صنع مقارنة -لا تجوز- تستخدم فيها السيدة العذراء مريم عندما نذرها أبواها للهيكل، وأخرجت منه قبل سن البلوغ حسب الأحكام اليهودية، فيؤكدون رفضهم هذا استنادًا إلى أن بقاء العذراء بالهيكل بعد البلوغ لو كان جائزًا لكانت العذراء هي أول الكهنة.
ويزيدون في تأكيد الرفض بأن السيد المسيح كان يعلم أن العذراء يهودية، ولو أرادها تخدم في الهيكل لكان قد غير الشريعة اليهودية مثلما غير أشياء كثيرة كان يقول عنها: “قيل للقدماء ….. أما أنا فأقول لكم……..”.
يسوع قد أغلق الشريعة
لكن الحقيقة هي أن السيد المسيح لم يكن ممكنًا أن يتجاوز الشريعة إلا بالفداء.. فكان عليه أولا أن يصادق على الناموس بكامله ويتممه بالفداء، حتى قال: ما جئت لأنقض بل لأكمل
[3] فلم ينقض شريعة واحدة لكنه أكمل الشرائع كلها وأتمها بالفداء على الصليب، كشاة “تساق إلى الذبح”، ذبيحة نهائية أغلقت الذبائح اليهودية الخمس نهائيًا وإلى الأبد، بعدما حققتها بمقتضي الوعد الإلهي الضارب في النبوات كلها.. وبالفداء أعلن المسيح العهد الجديد الذي أغلق الناموس نهائيًا، وطرح في الناس عهد النعمة.. وفي عهد النعمة سقطت مفاهيم واحترازات العهد القديم المقيدة بالذبائح، لأن ذبيحة المسيح غسلت عار كل القيود فصارت مقدسة في شخصه الأعظم.
لقد بلغ الهجوم درجة فادحة في التخويف والتهديد والتغول، فتطاول الكثيرون بأن “الأساقفة الذين لا يحافظون على نظام وطقس الكنيسة يتعين أن يتركوا الأسقفية ورهبنتهم على الفور”، تحت ادعاء أنهم يفرطون في “التقليد الذي تسلموه منذ عشرين قرنًا من الزمان من السيد المسيح ومار مرقس والآباء الأولين”.
لكن الحقيقة أن المهاجمين لا يدركون أن ما أكد عليه الإنجيل من أقوال وأفعال السيد المسيح يدعم رسامة الشماسات، وما أكد عليه الآباء الأولون هو عين ما أكده بولس الرسول قولًا وفعلًا في رسامة الشماسات.
الهجوم والخرافة يبلغان الذروة
ويتهجم المعارضون الجهال بترهيب وترعيب أفجع، طارحين تصورًا أخرق لا يجوز بأن: “الأسقف الذي يرسم شماسات (مخالفًا قوانين وطقس الكنيسة) [حسب هواجسهم]، سيرسم فيما بعد كاهنات لندخل في نفق أسود دخله آخرون ورسموا أساقفة نساء”.. هكذا يبلغ جنون الترهيب للكنيسة والإكليروس بتخوفات غير موجودة مطلقًا، ولا يمكن أن تحدث، لأن ما هو مقرر في الكنيسة الأولى وفي خدمة المسيح محصور في مشاركة الشماسات مشاركة عضوية عميقة في الخدمة الكنسية كلها.
إن الزعم بمخالفة قوانين وطقوس الكنيسة يسقط إذًا أدركنا ألا نص بالتحريم موجود مطلقًا في القوانين الكنسية والطقس الكنسي، فإذا كانت القوانين تتكلم عن الشمامسة الذكور لم تتكلم بالمنع أو بالحجر على شماسية الإناث، والطقس كان دائمًا متطورًا بإضافات وتفاصيل تعبدية تقبل دائمًا كل ما هو لصالح الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين، وصالح الكنيسة الآن يحتم رسامة الشماسات كي تقوي الكنيسة أكثر وأكثر بمشاركة فعالة وضرورية من جانب الشماسات، على الأخص في بلاد المهجر.
ويتهافت كذلك الزعم بأن تاريخ الكنيسة لا يحفظ أي طقس لرسامة الشماسات، ذلك لأن تاريخ الكنيسة والطقس ارتبطا ارتباطًا عضويًا بدونية المرأة، والظلم الذي عانته بمقتضى التقاليد الاجتماعية، التي عمقها انعدام استقلالها الاقتصادي والفقر، واعتماديتها المطلقة على الرجل، فلم يكن ممكنًا أن تحظى المرأة هكذا حتى بالحق في التعليم، ناهيك عن الحق في الشماسية، ما غرس -باطلًا وبهتانًا- في الكنيسة وفي الشعب اعتقادًا سيئًا مغلوطًا بأن الطقس وقوانين الكنيسة يحكمان بأن الشماسية ليس للمرأة فيها نصيب، في حين طقس الكنيسة وقوانينها من هذه الفرية وهذا الهراء براء.
هزيمة الكنيسة أمام الجهال
من المؤسف أن تهتز الكنيسة -وقيادتها الروحية والأدبية- وتتراجع أمام أي هجوم لغير الفاهمين، وأي تغول للجهال والمدعين.. وبدل أن تقف بصلابة لتبين للجميع صدقها وتطابقها مع الحق المسيحي، تخذل الجميع وتعتذر عن الصواب الذي تفعله.
إن مجرد الاعتذار من قبل البابا أو مجمع الأساقفة أو أسقف أو الإكليروس عمومًا في غير موضعه، يطرح في الكنيسة والشعب لا-تيقنية سيئة تفتّ في عضد الاعتقاد والإيمان المسيحي، ما يرين بظلال قاتمة على الشعب كله، أقربها أن أحد الإكليروس قد أخطأ، وأن الثقة في الإكليروس جميعا تتعرض للتدمير.
لا يمكن بحال أن يكون كل الأساقفة الذين رسموا شماسات في الكنيسة قد فعلوا الصواب حقا ثم يعتذرون عنه.. لا يمكن أن يكونوا على صحيح الإنجيل والطقس ثم تأتي اعتذاراتهم وتراجعاتهم لتلقى في روع الشعب أنهم قد سقطوا في الخطأ.. أساقفة أمثال نيافة الأنبا دانيال، أسقف المعادي، والأنبا يوأنس، أسقف أسيوط، والأنبا إسحق، أسقف طما، والأنبا بولس، أسقف كندا، وغيرهم، رسموا شماسات، وفي كل مرة يتكرر نفس السيناريو: عدم التمسك بالحق والتذبذب فيه، وتأثيم الفعل السليم بتراجعات واعتذارات مؤذية.. بينما جميعهم قد فعلوا الصواب طقسيًا وقانونيًا.
إننا لنهيب بقادة الإكليروس ألا ينهزموا ويتراجعوا أمام اقتحام الجماهير وشعبويتهم وجهلهم، بل بصلابة الحق التي للمسيح يسوع يتمسكوا جيدا بقراراتهم، ويدافعون عنها دون تراجع ودون تذبذب ودون أدني تخوفات.
