المقال رقم 26 من 26 في سلسلة الخطية الأصلية في فكر الآباء
«( الخطية الأصلية في فكر الآباءwp-content/uploads/2023/09/حواء.webp

نكمل الحديث عن مفهوم الخطية الجدية عند القديس يوحنا كاسيان، أحد أهم آباء الرهبنة اللاتينية في الغرب في القرن الخامس، خاصةً في جنوب بلاد الغال، أي فرنسا. نجح ق. يوحنا كاسيان في تطوير الحياة الرهبانية هناك. وكان سفيرًا للتراث الآبائيّ الشرقيّ النسكيّ في الغرب اللاتينيّ. وهو أحد أعمدة التقليد الكنسيّ النسكيّ فيما يتعلق بالنظام الرهبانيّ الحيّ، حيث يربط بين النواحي الداخلية والخارجية في النظام الرهبانيّ. لقد كان ملمًا به بكل دقة كما عاشه في مصر وخارجها لسنوات، حيث تتلمذ على يدي آباء البرية المصرية الكبار آنذاك، ونقل هذه المعرفة والخبرة الرهبانية النسكية الفائقة إلى الغرب اللاتينيّ، من خلال كتاباته ومحاوراته مع آباء البرية العظام، بالأخص آباء البرية المصرية. دُعِيَ في باسم ”كاسيانوس الروميّ“.

دحض التعليم بالإرادة المقيَّدة بالشر

يُشدِّد الأب على بقاء حرية الإرادة على الدوام في الإنسان قبل أو بعد السقوط، فلا يمكن إهمالها أو المغالاة فيها، كما فعل أوغسطينوس أسقف هيبو وأتباعه، حيث نادوا بالإرادة المقيَّدة بفعل الشر والعاجزة تمامًا عن فعل الخير، لدرجة أنهم قالوا إن الإرادة خالية ومجرَّدة تمامًا من كل خير، كما يشير إلى سينرجيا أو تآزر النعمة مع الإرادة الإنسانية كالتالي: [1]

شيريمون: تبقى حرية الإرادة على الدوام في الإنسان، لا نُهمِلها ولا نُغالِي فيها […] لأنه ما كان للرسول أن يُوصِي قائلًا: تمَّموا خلاصكم بخوفٍ ورعدةٍ، لو لم يعلم أنه يمكن للإنسان أن يتقدم في الخلاص أو يُهمِله. لكن لا يتصوّر البشر أنهم غير محتاجين للعون الإلهيّ في عمل الخلاص، إذ يُكمِل: لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته [2]. وأيضًا لا تُهمِل الموهبة التي فيك المعطاة لك بالنبوة مع وضع أيدي المشيخة [3]، أُذكِّرك أن تضرم أيضًا موهبة الله التي فيك بوضع يدي (رسالة بولس اثانية إلى تيموثاوس 1: 6 )). لهذا فإنه في كتابته إلى أهل كورنثوس ينصحهم ويُحذِّرهم لئلا بعدم إثمارهم يظهروا غير مستحقين لنعمة الله، قائلًا: نطلب ألا تقبلوا نعمة الله باطلاً [4]. لأن قبول النعمة المخلِّصة لم يُفقِد سيمون شيئًا لأنه قَبِلَها باطلاً، إذ لم يُطع وصية بطرس المبارك الذي قال له: فتب مِن شرك هذا واطلب إلى الله عسى أن يغفر لك فكر قلبك، لأني أراك في مرارة المر ورباط الظلم [5]. فالنعمة تتقدم إرادة الإنسان، إذ قيل: إلهي رحمته تتقدمني [6]. وأيضًا يتأخر الله لأجل صالحنا حتى يختبر رغباتنا، عندئذٍ إرادتنا هي التي تتقدم، إذ قيل: في الغداة [الصباح] صلاتي تتقدمك [7].

(القمص ، القديس يوحنا كاسيان)

ويدحض الأب أيضًا التعليم بالإرادة المقيَّدة بالشر بعد السقوط، حيث يرى أن القلب هو أصل الخطية ومنبعها، وليس خطية أصلية موروثة كائنة في الطبيعة البشرية، كما كان يدَّعي أوغسطينوس وأتباعه، فلا يوجد إكراه أو جبرية عند الخطاة على فعل الشر، بل هم يحبونه فعلًا ويمارسونه عن طيب خاطر. كما يُوضِّح أن الخطية هي فعل إراديّ محض، وليس فعل موروث تتوارثه الأجيال من و عن طريق التناسل والتزاوج الجنسيّ الدنس، كما يُنادِي أوغسطينوس وأتباعه كالتالي: [8]

ثيوناس: […] لأنه كيف يمكن أن ينطبق على الخطاة هذا القول: 'لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فأياه أفعل‘؟ أو 'فإنْ كُنتُ ما لست أُرِيده فأياه أفعل فلست بعد أفعله أنا، بل الخطية الساكنة فيَّ‘؟! لأنه أيّ خاطئ يُدنِّس نفسه كُرهًا بالفجور والزنا؟! مَنْ منهم بغير إرادته يصنع مكائد ضد قريبه؟! مَنْ منهم تُلزِمه الضرورة أن يظلم إنسانًا شاهدًا عليه بالزور، أو يغشه بسرقةٍ، أو يطمع في ممتلكات آخر، أو يسفك دمه؟! كلا! بل يقول الكتاب المقدَّس: تصوّر قلب الإنسان شرير منذ حداثته [9]. لأنه إلى هذه الدرجة يلتهب قلبهم بحب الخطية والشهوة راغبين في تنفيذ ما يحبونه، مُترقِبين باهتمامٍ شديدٍ أن يتمتعوا بشهواتهم ومجدهم في خزيهم [10]. وكما يُؤكِّد إرميا النبي أنهم يرتكبون آثامهم الخبيثة لا بإرادتهم أو بانشراح قلب فحسب، بل ويبذلون جهودًا شاقةً محتملين أتعابًا في تنفيذها […] إذ يقول: تعبوا في الافتراء [11]. أيضًا مَن يقول أن هذه العبارة: بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية تنطبق على حالة الخطاة الذين لا يخدمون الله لا بالذهن ولا بالجسد؟ إذ كيف يستطيع الذين يخطئون بالجسد أن يخدموا الله بالذهن إنْ كان الجسد يقبل إغراء الخطية من القلب، إذ يُعلِن خالق الاثنين [الذهن والجسد] أن القلب هو أصل الخطية ومنبعها قائلاً: لأن مِن القلب تخرج أفكار شريرة قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف [12]؟! على أيّ الأحوال يظهر بوضوحٍ أن هذه العبارات لا يمكن أن تنطبق على الخطاة الذين لا يكرهون الشر فقط، بل ويحبونه فعلاً، وهم بعيدون جدًا عن خدمة الله بالذهن أو الجسد، حتى أنهم يخطئون بالذهن قبل أن يخطئوا بالجسد، وقبل أن يُتمِّموا ملذات الجسد تقهرهم الخطية في ذهنهم وأفكارهم.

(القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان)

سينرجيا النعمة والأعمال

يُؤكِّد ق. يوحنا كاسيان مرةً أخرى على المبدأ الأرثوذكسيّ بتأزر النعمة والأعمال معًا من أجل تحقيق الخلاص، على العكس من أوغسطينوس الذي ركَّز على عمل النعمة الإلهية والمشيئة الإلهية أكثر من أهمية الأعمال وحرية الإرادة البشرية في التعاون والتآزر مع النعمة والمشيئة الإلهية قائلًا: [13]

بفنوتيوس: […] ما أقوله هذا لا يعني إننا نستهين بغيرتنا وجهودنا ونشاطنا كأنها غير ضرورية، أو نستخدم الحماقة، بل ينبغي علينا أن نعرف أننا لا نستطيع أن نُجاهِد بدون معونة الله، ولا يصير لجهادنا أيّ نفع للحصول على عطية النقاوة العظمى، ما لم تُوهَب لنا بواسطة المعونة والرحمة الإلهية […] فكم غباوة وشر أن ننسب الأعمال الصالحة إلى جهادنا الذاتيّ وليس إلى نعمة الله وعنايته، وهذا ما وَضِّح بجلاءٍ في قول الرب حيث أعلن بأنه لا يقدر أحد أن يُظهِر ثمار الروح بدون وحيه وعونه. لأن كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي نازلة من فوق من عند أبي الأنوار [14].

(القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان)

ويشير ق. يوحنا كاسيان إلى ضرورة التعاون والتآزر بين النعمة والأعمال، وأن العطية الإلهية الخاصة بالحرية ليست إجبارية، بل تعمل في تناغم وانسجام مع النعمة الإلهية كالتالي: [15]

بفنوتيوس: […] تنفيذ الأعمال الصالحة هو هبة من الله في نفس الطريق […] ومع ذلك فنحن نستحق الجعالة [المكافأة] أو العقاب، لأنه يمكننا أن نجتهد أو نُهمِل في تفاعلنا مع عمل الله وترتيب العناية الإلهية الموضوعة من أجلنا باهتمامٍ عظيمٍ. […] لقد أعلن الكتاب بأن العطية الإلهية الخاصة بالحرية ليست إجبارية وهي أن يأتي بهم إلى أرض الميعاد […] لكن في مقدورهم أن يُخالِفوا ذلك. من هذا نستطيع أن نرى بوضوحٍ ما ننسبه لإرادتنا الحرة، وما ننسبه لمواعيد وعلامات العناية الإلهية الدائمة. ففرص الخلاص والتدابير الناجحة والنصرة تخص النعمة الإلهية، ونحن علينا إمَّا أن نُطيع بشغفٍ أو نُهمِل البركات الممنوحة لنا مِن قِبل الله.

(القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان)

ويُشدِّد ق. يوحنا كاسيان على مبدأ السينرجيا بين عمل النعمة والأعمال البشرية الصالحة والجهاد البشريّ، مُوضِّحًا أنه عندما نقول إن المجهود البشريّ لا يستطيع بمفرده أن يحمينا بدون مساعدة الله، فإننا نُصرّ على أن مراحم الله ونعمته هي التي تُساعِد المجاهدين والمكافحين، فليست أتعاب الجسد ولا ندامة القلب في ذاتها كافيتين للحصول على طهارة الإنسان الداخليّ بدون معونة الله كالتالي: [16]

ليست أتعاب الجسد ولا ندامة القلب في ذاتها كافيتين للحصول على طهارة الإنسان الداخليّ حتى يمكننا أن نحصل على فضيلة النقاوة العظيمة [الموجودة فطريًا في الملائكة كسكان السماء، لا بواسطة المجهود البشريّ وحده بدون معونة الله] لأن إتمام كل شيء حسن يفيض من نعمته. مَنْ منَّا بكثرة فضله يُخوِّل مثل هذه البركة الأخيرة وهذا المجد العظيم بإرادتنا الضعيفة وسبيل حياتنا القصيرة الزهيدة؟! […] عندما نقول إن المجهود البشريّ لا يستطيع بمفرده أن يحمينا بدون مساعدة الله، نُصرّ على أن مراحم الله ونعمته هي التي تُخوِّل هؤلاء الذين يجاهدون ويكافحون استعمال تعبير الرسول لهم نريد ونسعى […] لكن السؤال والطلب والقرع من جانبنا لا يكفي ما لم تُعطنا رحمة الله ما ينبغي أن نسأله، وتفتح الباب الذي نقرعه، وتُؤهِّلنا أن نأخذ ما نطلبه. مِن جانبه يمنح كل الأشياء فقط إذَا أُعطِيَت له الفرصة برغبتنا الخاصة، لأنه يرغب ويبحث عن كمالنا وخلاصنا أكثر وأبعد مما نُريد نحن أنفسنا.

(القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان)

ويشير الأب شيريمون أيضًا إلى تعاون النعمة على الدوام مع إرادتنا البشرية من أجل نفعها، وتساعدها في كل شيء، وتحميها، وتُدافِع عنها، حيث تبحث عن بعض الجهاد الذي للإرادة الصالحة، فلا تبدو أنها تهب عطاياها للإنسان الخامل المتراخي كالتالي: [17]

شيريمون: […] هكذا تتعاون النعمة على الدوام مع إرادتنا لأجل نفعها، وتُساعِدها في كل شيء، وتحميها، وتُدافِع عنها، وذلك بطريقة يظهر فيها أنها تبحث عن بعض الجهاد الذي للإرادة الصالحة، حتى لا تبدو أنها تهب عطايا للإنسان الخامل المتراخي. وهي تبحث عن فرص لكي تكشف للإنسان الخامل أنه باستكانته يفقد جود النعمة. مع هذا تُحسَب النعمة مجانيةً، لأنه من أجل جهادٍ تافهٍ تُمنَح بغنى أمجاد الخلود التي لا تُقدَّر وبركات الأبدية.

(القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان)

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المناظرة 13: 12، ص 262. [🡁]
  2. رسالة بولس إلى فيلبي 2: 13 [🡁]
  3. رسالة بولس اﻷولى إلى تيموثاوس 4: 14 [🡁]
  4. رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس 6: 1 [🡁]
  5. سفر أعمال الرسل 8: 22، 23 [🡁]
  6. مزمور 59: 10[🡁]
  7. مزمور 88: 13 [🡁]
  8. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المناظرة 23: 1، ص 390. [🡁]
  9. سفر التكوين 8: 21 [🡁]
  10. رسالة بولس إلى فيلبي 3: 19 [🡁]
  11. سفر إرميا 9: 5 [🡁]
  12. إنجيل متى 15: 19 [🡁]
  13. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المناظرة 3: 15، 16، ص 126، 127. [🡁]
  14. سفر يعقوب 1: 17 [🡁]
  15. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المناظرة 3: 19، ص 128، 129. [🡁]
  16. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المؤسسات 12: 11، 14، ص 550، 551. [🡁]
  17. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المناظرة 13: 12، ص 263. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 0 حسب تقييمات 0 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ الخطية الأصلية في فكر الآباء[الجزء السابق] 🠼 الخطية الجدية عند يوحنا كاسيان [٤]
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في    [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، لل أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎