المقال رقم 25 من 25 في سلسلة الخطية الأصلية في فكر الآباء
«( الخطية الأصلية في فكر الآباءwp-content/uploads/2023/09/حواء.webp

نواصل عن مفهوم الخطية الجدية عند القديس يوحنا كاسيان، أحد أهم آباء الرهبنة اللاتينية في الغرب في القرن الخامس، خاصةً في جنوب بلاد الغال، أي فرنسا. نجح ق. يوحنا كاسيان في تطوير الحياة الرهبانية هناك. وكان سفيرًا للتراث الآبائيّ الشرقيّ النسكيّ في الغرب اللاتينيّ. وهو أحد أعمدة التقليد الكنسيّ النسكيّ فيما يتعلق بالنظام الرهبانيّ الحيّ، حيث يربط بين النواحي الداخلية والخارجية في النظام الرهبانيّ. لقد كان ملمًا به بكل دقة كما عاشه في مصر وخارجها لسنوات، حيث تتلمذ على يدي آباء البرية المصرية الكبار آنذاك، ونقل هذه المعرفة والخبرة الرهبانية النسكية الفائقة إلى الغرب اللاتينيّ، من خلال كتاباته ومحاوراته مع آباء البرية العظام، بالأخص آباء البرية المصرية. دُعِيَ في باسم ”ّ“.

دحض التعليم بالقدرية وسبق التعيين المزدوج

يدحض ق. يوحنا كاسيان فكرة سبق التعيين المزدوج والقدرية، التي طالما شدَّد عليها وس أسقف هيبو في الغرب في مواجهته للهرطقة ال، حيث يُوضِّح كاسيان، في محاورة دارت بين صديقه جرمانيوس والأب بفنوتيوس، أحد آباء البرية المصرية العظام آنذاك، أهمية حرية الإرادة والسينرجيا بين النعمة والجهاد قائلًا: [1]

جرمانيوس: إذًا، أين هي حرية الإرادة؟ وكيف يمكن أن نكون مستحقينن للكرازة كثمرة للجهاد ما دام الله هو الذي يبتدئ، وهو الذي يختم كل شيء فينا بخصوص خلاصنا؟ بفنوتيوس: نحن نعرف أن الله يخلق لنا فرصًا للخلاص بشتى الطرق، لكن يمكننا أن نستخدم هذه الفرص باجتهادٍ أعظم أو أقل. فالله يُقدِّم فرصةً كقوله: اِذهب من أرضك، لكن الطاعة من اختصاص إبراهيم الذي أطاع وذهب منها. ففي القول: اِذهب إلى الأرض تحمل معنى العمل، عمل ذاك الذي أطاع، وفي القول: التي أريك تحمل نعمة الله الذي أوصاه أو وعده. مِن المفيد لنا أن نتأكَّد أنه بالرغم من أننا نُجاهِد في كل الفضائل جهادًا غير باطل، لكننا لا نستطيع بلوغ الكمال بجهدنا وغيرتنا، فلا يكفي نشاط الإنسان وجهاده المجرَّد للبلوغ إلى عطية النعمة الغنية، ما لم يصن جهاده بالتعاون [] مع الله، وتوجيهات الله لقلبه نحو الحق […] هكذا نحن لا نهلك إذًا لضعف حرية إرادتنا، لأن الله يُعضِّدنا ويعيننا باسطًا يديه لنا. فبالقول: إذَا قُلت قد زُلّت قدمي، يقصد زُلّت إرادتي، وبالقول: فرحمتك يارب تُعضِّدني [2]، يُظهِر عون الله لضعفنا، مُعترِفًا أنه ليس بمجهودنا الذاتيّ، بل برحمة الله لنا لا تزل أقدام إيماننا […] وأيضًا لولا أن الرب مُعيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت [3]. يُعلِن هنا أنه بسبب ضعف إرادتنا الحرة نسكن في الجحيم [أرض السكوت]، لو لم يُنقِذنا عون الله وحمايته.

(القمص ، القديس يوحنا كاسيان)

ويدحض الأب ، أحد آباء الرهبنة المصرية آنذاك، التعليم بسبق التعيين المزدوج للخلاص أو الهلاك، كما علَّم به أوغسطينوس في سياق مواجهته للهرطقة البيلاجية، مؤكدًا على أن الله لم يخلق الإنسان بدون إرادة، بل خلقه بإرادة حرة، كما يدحض أيضًا تعليم أوغسطينوس بالإرادة المقيَّدة بالشر بعد السقوط، بمعنى أن الإنسان يفعل الشر تلقائيًا، وحتى لو أراد فعل الخير فإنه عاجز تمامًا عن فعل الخير، وحتى لو أراد أن يفعل الصلاح، فإنه يفعل الشر رغمًا عنه بسبب عجزه التام عن فعل الخير والصلاح كالتالي: [4]

شيريمون: […] لا يجدر بنا أن نتطلع إلى الله أنه خلق الإنسان بلا إرادة، أو أنه عاجز عن الصلاح، فلو كان قد سمح له بالإرادة الشريرة والقدرة على الشر دون الخير يكون بذلك قد حرمه من الإرادة الحرة، وعندئذٍ ماذا تعني العبارة التي نطق بها الرب مُباشرةً بعد سقوطه: هوذا الإنسان قد صار كواحد منَّا عارفًا الخير والشر [5]؟ لأننا لا نقدر أن نظن أنه كان قبلًا جاهلًا للخير تمامًا، وإلا بهذا يكون الإنسان مخلوقًا غير عاقل كالحيوانات العجماوات، وهذا القول غريب تمامًا عن .

(القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان)

ويدحض الأب شيريمون التعليم الأوغسطينيّ بسبق التعيين والاختيار المزدوج للخلاص والهلاك منذ الأزل، حيث يؤكد أوغسطينوس على أن هناك نوعان من البشر أحدهما مُعيَّن منذ الأزل مِن قِبل الله للخلاص الأبديّ، والنوع الآخر مُعيَّن للهلاك الأبديّ قائلًا: [6]

شيريمون: هكذا فإن مثل هذه الأمور تتشابك معًا بلا تمييز […] حتى أن كثيرين ينشغلون بمثل هذه الاستفسارات الصعبة: هل الله يُظهِر حنوه لنا لأننا نُظهِر بداية إرادتنا الصالحة، أم أن الإرادة الصالحة تبدأ لأن الله يحنو علينا؟ يعتقد كثيرون بأحد هذين الرأيين ويؤكدنه أكثر مما يجب فيسقطون في أخطاء مضادة. فإن قُلنا أن بداية الإرادة الصالحة هي في سلطاننا، فماذا نقول عن بولس المضطهِد؟ وماذا نقول عن متى العشار؟! إذ سُحِبَ أحدهما إلى الخلاص وهو توَّاق إلى سفك الدم ومعاقبة البريء، وسُحِبَ الآخر وهو مُحِب للعنف والنهب، وإنْ قُلنا أن بداية إرادتنا تأتي دائمًا كنتيجة لوحي النعمة الإلهية، فماذا نقول عن إيمان ، وصلاح اللص الذي على الصليب، هذين اللذين بإرادتهما اغتصبا ملكوت السموات، ونالا قيادة خاصة بالدعوة؟ حقًا يبدو أن هاتين الاثنتين: أي نعمة الله وحرية الإرادة معارضتين لبعضهما البعض، لكن في الحقيقة هما متفقتان معًا، ونحن نستنتج من نظام الصلاح إنه يُلزِمنا أن تكون لنا الاثنتين معًا متشابهتين، فإنْ نزعنا أحدهما نكون قد كسرنا نظام قانون الكنيسة. فعندما يُشاهِدنا الله مائلين نحو الخير، يلتقي بنا ويقودنا ويُقوينا […] إذ يقول: يتراءف عليك عند صوت صراخك، حينما يسمع يستجيب لك [7]، وادعني في اليوم الضيق أُنقِذك فتُمجِّدني [8]. وإذَا وجدنا غير راغبين في الخير، أو أننا ننمو في البرود [الروحيّ]، يُثير قلوبنا بنصائحٍ مفيدةٍ لكي ما تتجدَّد فينا الإرادة الصالحة أو تتكوَّن فينا.

(القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان)

دحض التعليم بالفساد الكلي للطبيعة البشرية

يدحض الأب شيريمون أيضًا تعليم أوغسطينوس بالفساد الكليّ للطبيعة البشرية بعد السقوط، وأن إرادة الإنسان بعد السقوط صارت مقيَّدة بفعل الشر تلقائيًا، لدرجة أنها خالية تمامًا من أي بر أو صلاح يُذكَر، بل حتى لو حاولت فعل الخير، فإنها تفعل الشر تلقائيًا، ويُؤكِّد الأب شيريمون على أن قد صار بعد السقوط عارفًا الشر الذي لم يكن يعرفه قبلًا، ولكنه لم يفقد معرفته للخير الذي كان يعرفه قبلًا كالتالي: [9]

شيريمون: علاوة على هذا، فإن يقول: الله صنع الإنسان مُستقيمًا [10]. بمعنى أنه على الدوام يتمتع بمعرفة الخير وحده، أمَّا هم فطلبوا اختراعات كثيرةً [11]. إذ صارت لهم معرفة الخير والشر كما كان من قبل. لقد صار لآدم بعد السقوط معرفة الشر الذي لم يكن يعرفه قبلًا، ولكنه لم يفقد معرفته للخير الذي كان يعرفه. أخيرًا، تكشف كلمات الرسول بوضوحٍ أن البشرية لم تفقد معرفة الخير بعد ، إذ يقول: لأنه الأمم الذين ليس عندهم ناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس، فهؤلاء إذ ليس لهم ناموس، هم ناموس لأنفسهم، الذين يُظهِرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم، شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكيةً أو محتجةً، في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس [12]. بنفس المعنى ينتهر الرب على لسان النبي غير الطبيعيين، الذين اختاروا بإرادتهم عمى اليهود، وخلال عنادهم جلبوا ذلك على أنفسهم أيها الصم اسمعوا، أيها العمي انظروا لتبصروا، مَت هو أعمى إلا عبدي وأصم كرسولي الذي أرسِله؟! [13]. وحتى لا ينسبوا عماهم إلى الطبيعة وليس إلى إرادتهم، يقول: أخرج الشعب الأعمى وله عيون والأصم وله آذان [14]، وأيضًا الذين لهم أعين ولا يبصرون، لهم آذان ولا يسمعون [15]، ويقول الرب نفسه في الإنجيل: لأنهم مبصرون ولا يبصرون، وسامعون ولا يسمعون ولا يفهمون [16] […] أخيرًا، لكي تُدرِك أن إمكانية الصلاح كانت موجودة فيهم، يُوبِّخ الفريسيين قائلًا: ولماذا لا تحكمون بالحق مِن قِبل نفوسكم؟ [17]. وهذا ما كان يقول الرب ذلك لو لم يعلم أنهم بحكمهم الطبيعيّ قادرون على تمييز ما هو صالح.

(القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان)

ويُؤكِّد الأب شيريمون أيضًا على أننا بعد السقوط لم نُحرَم من التفكير والتصوُّر للأفكار الصالحة بشكلٍ طبيعيّ، فلا يوجد شك بأن هناك بعض بذور الصلاح بالطبيعة فينا، أوجدها حنو الخالق في كل نفس، ولكن هذه البذور لا يمكن أن تنمو ما لم يرعها العون الإلهيّ، وبالتالي، يدحض الأب شيريمون التعليم الأوغسطينيّ بالفساد الكليّ للطبيعة البشرية بعد السقوط، وينادي مثله مثل جميع آباء الشرق في عصره بالفساد الجزئيّ للطبيعة البشرية مع بقاء بذور الصلاح فينا بالطبيعة كالتالي: [18]

شيريمون: […] هكذا يمكننا أن نتكلَّم بخصوص أفكارنا اليومية، فإنه لم يُوهَب لداود وحده أن يُفكِّر فيما هو صالح، إذ لا نُحرَم نحن طبيعيًا أن نُفكِّر ونتصوّر أمورًا صالحةً. إذ لا نشك أنه بالطبيعة توجد فينا بعض بذور الصلاح، أوجدها حنو الخالق في كل نفس. لكن هذه البذور لا يمكن أن تنمو ما لم يرعها العون الإلهيّ، وكما يقول الرسول الطوباويّ: إذ ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي يُنمِي [19].

(القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان)

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المناظرة 3: 11، 12، ص 124، 125. [🡁]
  2. مزمور 94: 18 [🡁]
  3. مزمور 94: 17 [🡁]
  4. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المناظرة 13: 12، ص 260. [🡁]
  5. سفر التكوين 3: 22 [🡁]
  6. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المناظرة 13: 11، ص 259، 260. [🡁]
  7. سفر إشعياء 30: 19 [🡁]
  8. مزمور 50: 15 [🡁]
  9. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المناظرة 13: 12، ص 260، 261. [🡁]
  10. سفر الجامعة 7: 29 [🡁]
  11. سفر الجامعة 7: 29 [🡁]
  12. رسالة بولس إلى رومية 2: 14-16 [🡁]
  13. سفر إشعياء 42: 18، 19 [🡁]
  14. سفر إشعياء 43: 8 [🡁]
  15. سفر إرميا 5: 21 [🡁]
  16. إنجيل متى 13: 13 [🡁]
  17. إنجيل لوقا 12: 57 [🡁]
  18. القمص تادرس يعقوب ملطي، القديس يوحنا كاسيان (حياته، كتاباته، أفكاره)، القاهرة، 1997، المناظرة 13: 12، ص 262. [🡁]
  19. رسالة بولس اﻷولى إلى كورنثوس 3: 7 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 1 حسب تقييمات 1 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

Previous
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في    [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎