اليوم السبت 1 نوفمبر 2025 تشهد مصر افتتاح المتحف المصري الكبير في مكانه قرب أهرامات الجيزة، وقبل ساعات من اﻻفتتاح، سادت حالة من البهجة عبر مواقع التواصل الاجتماعي من المصريين، حيث حول قطاع كبير منهم صورهم الشخصية إلى تصميمات تعبر عن الهُوِيَّة المصرية القديمة برموزها، وشياكتها وأناقتها، امتد تأثيرها عالميًا، فبعض نجوم الفن والرياضة العالميين نشروا صورهم بالزي المصري القديم، كما احتفل المصريين في الشوارع والطرق القريبة من المتحف المصري الكبير قبيل اﻻفتتاح الرسمي، وتجعلنا هذه الروح المصرية أن نقارن حالة السوشيال ميديا اﻷسبوع الماضي بسبب اﻻعتداءات الطائفية في قرية نزلة الجلف في محافظة المنيا.

نحو 10 أيام، فقط بين الحدثين لكن شتان الفارق بين ردود أفعال الناس وحالتهم المزاجية التي انتقلت من الغضب والحزن بسبب الاعتداءات الطائفية والعقاب الجماعي للأقباط في المنيا وجلسات الصلح المجحفة، وبين حالة الفخر عند غالبية المصريين والاعتزاز بانتمائهم لجدودهم القدماء، عدا الكائنات التي لا تُعد نفسها ضمن المصريين، وتكره وتحتقر مصر وترى في الحدود تراب والوطن عفن، ويطلبون من المصريين عدم اﻻحتفال حتى ﻻ يتشبهوا بجدودهم الفراعنة، وكان رد فعل المصريين عليهم هو مزيد من “السف والهزار” واﻻستهزاء بدعواتهم، وتحويل صورهم الشخصية للنمط المصري القديم.

ولعل أبرز وأوضح فرق بين الحالتين أنه في حالة افتتاح المتحف المصري اختفت الهويات الفرعية أمام الهُوِيَّة الرئيسة، فالمواطنون هنا يعبرون عن فرحتهم بالمتحف لكونهم مصريين، فمصريتهم هي  الهُوِيَّة اﻷم والمظلة اﻷوسع لكل المواطنين المصريين، يكتسبونها كونهم يحملون الجنسية وبطاقة هُوِيَّة مصرية، وتحوي أيضًا تنوعهم وهوياتهم الفرعية ومن بينها اﻻنتماء الديني أو عدم الانتماء، وتنوعهم اللغوي والثقافي والجغرافي، في حين واقعة الاعتداءات الطائفية بالمنيا غلبت فيها الهويات الدينية (الفرعية)، وكان صوتها أعلى، فحدث ما حدث من عنف واعتداءات على اﻷقباط، ثم الجلسة العرفية المجحفة التي تم إقرار فيها غرامة مليون جنية وتهجير 2 من العائلات القبطية بالقرية، وكان الصوت المتمسك بالهوية المصرية الرئيسة، المتابع للأحداث يطالب الدولة بممارسة دورها وتطبيق القانون على الجميع، وهو ما يضمنه الدستور والقانون بنصوصهم، ويتعذر تنفيذه لغياب الوعي وسيطرة الهويات الفرعية على ثقافة وفكر قطاع كبير من الموظفين الحكوميين في مختلف المواقع بالجهاز اﻹداري للدولة.

لذا إذا كان هناك عاقل يريد أن يتحرك بمصر والمصريين إلى المستقبل، فالخطوات بسيطة، التأكيد على دستور وقوانين ﻻ تعرف التمييز بين المواطنين بسبب دينهم أو لغتهم أو جنسهم أو حتى إثنيتهم، وأن يكون كل المواطنين سواء أمام القانون والدولة، فهذا يرسخ “الهُوِيَّة اﻷم”، ومن ثم سيجد المواطنون فرصة للاعتزاز بالهوية المصرية اﻷم، وكذلك سيجدون الضمانة للتعبير عن هويتهم الفرعية مثل الهُوِيَّة الدينية سواء مسيحيين أو مسلمين أو غير مؤمنين أو بهائيين، وغيرها من الهويات الفرعية مثل تشجيع فريق كرة قدم، لكن ليس بالمعنى المشوه الحالي ليكون بالنسبة للمشجع أهم من مصر أو اعتباره الوطن مكان مصر.

بهذه الطريقة سينتمي المواطنين لبعضهم باعتبارهم مصريين، وستكون الروح الغالبة بينهم هي الروح السائدة حاليًا مع افتتاح المتحف المصري الكبير، وستختفي صراعاتهم ومشاكلهم بسبب تناحر الهويات الفرعية، بل سيتعلمون إذا تم تطبيق القوانين على الجميع دون محاباة أن يحترموا تنوعهم ويثقوا ويحترموا القانون أيضًا، وأنه لا أفضلية لمواطن على الآخر بسبب النادي الذي يشجعه أو ﻻنتمائه الديني أو القبلي، بل بعمله وكفائته.

ويلزم مع هذه الخطوات وحتى نكون دولة مواطنة حقيقية فاﻷمر ﻻ يتوقف على الدستور والقوانين وإلغاء التمييز بين المواطنين فيهم فقط، بل أن يصل قطار التنمية الذي حركته الدولة بمشروع مثل حياة كريمة إلى قرى الصعيد الفقيرة، ففي أغسطس 2012، ذهبت إلى قرية دهشور جَنُوب محافظة الجيزة لمتابعة تفاصيل اعتداءات طائفية على المسيحيين بعقاب جماعي نتيجة مشاجرة بين مسيحي ومسلم، وعبر غالبية السكان الذين تحدثت معهم عن ضيقهم وقتها من عدم وجود شبكة صرف صحي أمنة، ولا مياه نظيفة للشرب، وضيق الحال، وربما يكون الشحن الديني الطائفي متنفس ليعبر الناس عن غضبهم من نمط حياتهم الصعب، لكن تجاه بعضهم البعض، وأعتقد أن جزء من أزمة قرية الجلف الأخيرة يرتبط أيضا بغياب التنمية، فتوجيه بعض مشروعات التنمية، مع تعاون من مؤسسات المجتمع المدني التي تنفذ مشروعات تدعم قيم التسامح والعيش المشترك، ستؤكد وجود الدولة بأجهزتها المختلفة، ما يرسخ قوة القانون، ويمنع اللجوء للجلسات العرفية غير العادلة.

أخيرًا، فكرة اللجوء للدين ليست عملية مع المجتمع المصري في حل النزاعات أو ترسيخ العيش المشترك، ﻷنه ونحن نتخذ هذا الطريق يوجد به التنظيمات اﻹرهابية التي تصدر نفسها باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للدين، مما يزيد الوضع تعقيدًا، ويزيد من مساحة التطرف، بل ويزايدون على الدولة ومسؤوليها في تدينهم، فيضطر المسؤولون أن يثبتوا العكس، لكن موكب المومياوات الملكية، وافتتاح المتحف المصري الكبير رسموا لنا الطريق والبوصلة، لنزع فتيل الطائفية من المجتمع ورفع وعي المصريين بقيمة أنفسهم وبقيمة بلدهم، وبقيمة التنوع الذي تحويه مصر، فيصعب حصرها في لون واحد أو هُوِيَّة واحدة فرعية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 3.7 حسب تقييمات 3 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

پيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- ، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "" () لشبونة 2022.