تاريخ الحركة النسوية في الغرب طويل، تقريبًا الأفكار المطروحة على الساحة حاليًا بدأ طرحها في أمريكا وأوروبا منذ حوالي قرنين، وما زالت في تطور إلى اليوم. ولكي تفهم هذه الحركة بعيدًا عن التشويه الذكوري وجنون المرتزقة الذين يرونها سببًا لكسب الشهرة والمال، يجب أن تدرس تاريخ الحركة وسياقها الاجتماعي الغربي، وأن ترى سياقها الشرق أوسطي الحالي لتفهم المسارات المختلفة التي تمر بها الأفكار.

دعونا نبدأ بالكاتبة الأمريكية إليزابيث كادي ستانتون. إليزابيث كتبت إعلانًا لحقوق المرأة اسمه Declaration of Sentiments [إعلان العواطف]، وهو موازٍ في محتواه لإعلان الاستقلال الأمريكي عن بريطانيا Declaration of Independence. في إعلان إليزابيث ستانتون، تصف وضع المرأة في منتصف القرن التاسع عشر في أمريكا، وتقول أنّ المرأة كانت ممنوعة من الانتخاب (كالعبيد)، ولم تكن تشارك في الحكومة والتشريع لأنه كان يُنظر إليها ككائن منزلي (domestic)، دورها في المجتمع يتم من خلال الأسرة ولكنها لا تستطيع التعامل مع المجتمع بشكل مباشر [1].

تُكمل ستانتون وتقول إن الحقوق الكاملة كانت للرجل حتى لو كان غير مُتعلِّم وفاسدًا أخلاقيًا، ولكن تُمنع منها المرأة حتى لو كانت مُتعلِّمة ومُستقيمة أخلاقيًا، وهنا التمييز يأتي من اختلاف طبائعهم؛ المجتمع حينها كان يرى الرجل مختلفًا طبيعيًا وفي مكانة أعلى، وكانت هذه هي الرؤية الدينية التي انطلق منها الناس في ذلك الوقت [2].

في نفس الوقت، كانت المرأة مُطالبة بدفع الضرائب، ولكنها ممنوعة من المشاركة في صياغة القوانين التي تُطبق عليها. كذلك، كان القانون يمنع محاسبتها لو ارتكبت جريمة وكانت متزوجة؛ فالقانون وقتئذ كان يُحاكم الزوج لأنه هو المسؤول عنها، وكأنها فاقدة الأهلية عقليًا وأخلاقيًا. كان ممكنًا أن يرد أحدهم ويقول إن هذا تكريم لها، لكن الذي فهمته المرأة المتعلمة في وقت ستانتون هو أن المرأة ذات مسؤولية، وإنها كما لها حقوق، يجب أن يكون عليها واجبات ومسؤوليات، وتُحاسب كإنسان كامل عاقل عندما تُخطئ. الكلام عن إعفائها من المساءلة هو إهانة، لا تكريمًا وتفضيلًا. تُكمل ستانتون وتَسرد الأوضاع السيئة التي تعيشها المرأة، وتُطالب بتغيير مُجتمعي يُصلح كل هذه القوانين، ويبدأ في تضمين المرأة في صناعة القرار والقانون والحكومة.

الموجة الأولى

هذه الفترة كانت تُسمى الموجة الأولى للنسوية، وكما رأينا، كانت تطالب بالحقوق القانونية والمدنية للمرأة. في نفس الوقت، كان هناك نقاش بخصوص طبيعة المرأة في المجتمع. وكما رأينا أيضًا، كانت الحجة الرئيسية هي اختلاف طبيعة المرأة والرجل، فهي منزلية وهو مُجتمعي، هي تربي وتؤثر من داخل البيت وهو يخرج ليناقش المجتمع في القضايا العامة ويتناظر ويتناقش في الرأي العام.

التمييز بين الجنسين بناءً على الطبيعة كان فكرة كلاسيكية وقديمة للغاية. يمكنك مثلًا الرجوع إلى الكتابات اليونانية لترى كيف بدأت الفكرة.

في الطب القديم، كان يُنظر إلى كل شيء على أنه مكون من نسب مختلفة من العناصر الأربعة: الماء والهواء والتراب والنار. بالتالي، فإن اختلاف الجنسين ناتج عن اختلاف نسب هذه العناصر في الجسم. الفرق بين الرجل والمرأة هو أن جسم الرجل فيه نار أكثر وماء أقل، وعلى هذا طبيعته حادة وعصبية، والمرأة عاطفية أكثر وأقل عنفًا [3].

ونفس الفكرة يمكن أن نجدها عند ، الذي كان يعتبر المرأة نسخة مُشوهة من الرجل [4].

الفكرة استمرت وكُمِّلت عند المؤلفين والمفكرين اللاحقين، بما في ذلك آباء الكنيسة.

سنجد نفس الفكرة بالضبط عند في القرن الثاني والثالث الميلادي. مثلًا، في كتابه عن النفس، يقول إن المرأة كانت بلا هيئة (Form) لأنها كانت جزءًا من ، وبعد ذلك تشكلت وأصبحت جنسًا منفصلًا، وبذلك أسبقية آدم الزمنية كانت مؤشرًا لتفوقه من حيث النوع والمكانة (ترتليانوس الإفريقي، عن النفس، الفصل 36، تعليقًا على قصّة الخلق في سفر التكوين، الأصحاح الثاني. )).

فكرة الاختلاف الطبيعي موجودة أيضًا في كتابات من القرن الثاني والثالث الميلادي، الذي يقول إن خلق كان من خلال أن الله انتزع من آدم الرقة والنعومة ووضعها في المرأة، لأن المياه في الجسم هي التي تسبب ذلك [5]. وعلى هذا، كان مستقرًا في الوجدان الديني عند الناس أن هناك تمييزًا طبيعيًا إلهيًا بين الجنسين.

في كتابات كاثرين بيتشر التي أشرنا إليها، كانت تخاطب أنجلينا جريمكي، التي كانت تدعو المرأة للانخراط في المجال العام والمطالبة بتحرير العبيد في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. في واحد من الخطابات التي ناقشت فيها بيتشر جريمكي، كانت تحاول أن تقدم نموذجًا آخر لشرح العلاقة بين الرجل والمرأة. بدلًا من التمييز الطبيعي، قررت جريمكي أن تنطلق من النقطة المشتركة وهي الطبيعة الأخلاقية.

تقول جريمكي إن الرجل والمرأة لديهما طبيعة أخلاقية عاقلة، هي التي تميزهما عن الحيوان، بالتالي كل كائن ذي خُلُق هو كائن ذو مسؤولية، وعلى هذا إن كانت الطبيعة الأخلاقية واحدة بينهما فالحقوق واحدة بينهما والواجبات واحدة كذلك. والارتداد إلى التمييز الطبيعي بناءً على الجنس يقرب البشر للحيوانات أكثر، لأن الحيوانات تتمايز جنسيًا فقط وليس لديها طبيعة أخلاقية، بينما البشر أسمى ولهم طبيعة أخلاقية وهي المعيار الذي نحتاج أن نبني عليه المجتمع. ومن هنا تستنتج جريمكي أن الحر والعبد والرجل والمرأة متساوون ولا مجال للتدني تجاه التمييز العنصري بين الأعراق أو التمييز الطبيعي بين الرجل والمرأة.

في نفس الوقت تقريبًا، كان هناك دبلوماسي وفيلسوف فرنسي محافظ اسمه ألكزيس دو توكفيل، كتب عدة مقالات يعلق فيها على وضع المرأة الأمريكية. قال إن وضع المرأة غير منصف، وإنها ممنوعة من التعليم والسياسة، وإنه لا يوجد أي منطق يمكنه تبرير هذا الوضع. ولكن المفاجأة أنّه لم يتوقف عند هذه النقطة، بل قال إن الحل ليس بالضرورة منطقيًا، بل قد يكون ًا ينظر للمصلحة العامة. كيف؟

قال ألكزيس دو توكفيل إن المرأة “بطبيعتها” منزلية، وإن خروجها إلى المجال العام سيكون ضغطًا عليها وتحميلًا لها فوق طاقتها. وإن مصلحة المجتمع تتلخص في ألا يكون هناك صراع بين الرجل والمرأة في المجال العام، حتى يظلوا يحترمون ويحبون بعضهم بعضًا. وبما أن سعادة العدد الأكبر هي المعيار الموضوعي الوحيد، فمن مصلحة الجميع أن تفضل المرأة البقاء في البيت، حتى لو أغضب هذا جزءًا من المجتمع، فسعادة الأغلبية هي الأهم.

كُلُّ تلك المحاولات لتبرير وضع المرأة كانت مجرد تسكين أو تهدئة للمطالبات بالتغيير، للإبقاء على قوة الوضع القائم. المشكلة هنا كانت أن الآراء المضادة ليست آراءً من الرجال وحدهم. لا، من أشرس المقاومين كانت بعض النساء. ستقول لي: “طيب، إزاي؟” سنرجع هنا لموضوع الخطاب. الخطاب شيء غير محصور في الجنس الذي يكون الخطاب في صالحه. يعني الخطاب الذكوري ليس بالضرورة ينادي به الذكور، بل هو ذكوري لأنه تراتبي، أي يخلق تمييزات بناءً عليها تترقى مجموعة لمكانة أعلى من مجموعة أخرى بناءً على تمييز طبيعي أو اجتماعي أو اقتصادي أو تمييز بناءً على الاعتقاد. كلها أشكال متنوعة ممّا يُسمى بالمصطلح الشامل “العنصرية”.

الموجة الثانية

الموجة الثانية من النسوية كانت تبني على مطالب الموجة الأولى، ولكن في وقت كان قد تحقق فيه حق الانتخاب للمرأة وكان الوضع قد تحسن نسبيًا، لكن كان لا يزال هناك تمييز مجتمعي ضد المرأة وحصر لأدوارها في المجال المنزلي.

في السبعينيات ظهرت حركة اسمها “Womyn's Land” وهي حركة نسوية انفصالية تدعو إلى إصلاح وضع المرأة بشكل راديكالي من خلال الانفصال التام عن الرجال، انفصال اجتماعي واقتصادي وسياسي. فلا يوجد زواج من رجال، ولا حياة معهم في نفس المجتمع، ولا عمل معهم. الحركة وضعت معايير معينة للنسوية، وبدأت تقل حدة بعد ذلك في النسويات الأقل راديكالية اللاتي كن يرين إصلاح وضع المرأة ضرورة، ولكن هذا لن يتم من خلال التسويف ولا الحلول الانفصالية الخاصة بـ “Womyn's Land”.

طبعًا، هذه اليوتوبيا تحولت إلى فاشية قمعية، حسب تعبير ڤيرونيكا كولر، تمارسها النسويات الانفصاليات على النسويات الأخريات. هذه اليوتوبيا انتهت بفشل على كل المستويات بعدما واجهت مشكلات كبرى مثل نقص الخبرة في مجالات كثيرة، ونفور الناس منها بسبب غرابة بعض مطالبها واستحالة بعضها. ولكن تظل هذه النسخة من النسوية أكثر ضررًا على النسوية من ال، لأنها تُستخدم كرجل قش يظهر كلما طلب أحدٌ مطلبًا مشروعًا.

إبراز وتصدير الآراء الغبية لتفادي نقاش الآراء المنطقية والمطالب المشروعة هو سياسة غاية في القدم والفاعلية. إذا أردت أن تُخفي شيئًا يحق للناس مطالبتك به، فاجعل أحدهم يقول كلامًا معيبًا واختزل كل المطالب فيه.

الأخطر على قضايا المرأة هي المرأة التي تنتج الذكورية في كل دوائر وجودها: الأم التي تحرّض الرجل على زوجته، الأم التي تؤيد سيطرة الأخ على أخته، الحقوقية التي تمارس تسليع المرأة من خلال ابتذال قضايا المرأة في التريندات والمصالح الشخصية، سواء كانت نفسية أو مادية. هكذا.

تقول الكاتبة الأمريكية إليزابيث كادي ستانتون للنساء الأمريكيات إنهن مجرد انعكاسات للمجتمع الذكوري، ونادرًا ما يفكر أحدٌ منهن في حقوق المرأة بشكل سليم. المطالبة بالحقوق المشروعة تحتاج أن تتم عن دراسة، لا بالضوضاء والصخب العاطفي.

في 2007، الباحثة دونا لي ليليان، كتبت ورقة بحثية بعنوان A Thorn by Any Other Name: Sexist Discourse as Hate Speech [شوكةٌ تحت أي اسمٍ آخر: الخطاب الجنسي كخطاب كراهية]. تحلل هذه الورقة خطاب كاتب ورجل أعمال كندي اسمه ويليام د. جايردنر، وتعرض خطابًا منتشرًا جدًا في مصر. ما فعله جايردنر هو الفصل بين تعبيرين: تعبير “امرأة” (Woman) وتعبير “نسوية” (Feminist)، بحيث يستخدم تعبير “امرأة” بدلالة إيجابية وتعبير “نسوية” بدلالة سلبية، ودائمًا يربط تعبير “امرأة” بالتصورات المقبولة في المجتمع الذكوري والمحافظ، وتعبير “نسوية” بالتصورات التي تدعو لتحرر المرأة [6].

هذا الخطاب يحاول تقديم أي محاولة لإصلاح وضع المرأة في المجتمع باعتبارها مفسدة ودعوة لتفكيك المجتمع، وذلك من خلال ربط استقرار المجتمع وتقدمه بخطاب يتبنى اللفظة العامة “امرأة” وبالطبيعة والتقاليد، في حين أن أي فكرة تحاول أن تتحدى هرمية المجتمع ومركزية الرجل يتم وصفها بتعبير “نسوية” بدلالة سلبية كنوع من التقليل والتحقير.

وبذلك، يستطيع جايردنر أن يقول إنه مع حقوق المرأة، لكنه ليس مع الـ”feminism”، لكن فعليًا، الذي يدعو إليه من حقوق المرأة ما هو إلا التصور الذكوري عما يحق للمرأة. وأيّ واحدة ستطالب بحقوقها من منظورها هي ستُسمى “feminist” بما للفظ من دلالة سيئة أسس لها جايردنر. فهمت اللعبة؟

من كلام جايردنر الذي يؤكد صحة هذا التحليل، كانت هناك فقرة يصف فيها المطالبة بحقوق المرأة باعتباره سرطانًا يضرب المجتمع. لكن بدلًا من أن يقول العبارة بصورة صريحة، كان يوجهها لحقوق المرأة من منظور المرأة الـ feminism. كان الهدف هو أن يصدّر تصورًا ذكوريًا ومعاديًا للمرأة، لكن يسميه حماية ومجتمع آمن، ويصم أي تصور مخالف للمستقر والقديم تاريخيًا باعتباره خطرًا وتفكيكًا للاستقرار وحديثًا زمنيًا.

هذا الخطاب يجب التعامل معه بحذر لأنه جذاب جدًا لمن لديهم أساسًا انحياز ذكوري وتصور معادٍ للمساواة، وفي نفس الوقت لا يعرض فكرته بشكل مباشر، لكن بتلاعبات لفظية يبرر انحيازه، ويسمح له بادعاءات يُساء فهمها من قبل المستمع، بحيث يبدو ظاهريًا محايدًا وموضوعيًا، ولكنه في الحقيقة يهاجم كل أنواع الحقوق التي تؤدي إلى المساواة.

هناك مجهودات كبيرة للتعاطي مع الآراء التي تنطوي على تمييز ضد المرأة. ولو لاحظت، أنا تعمدت أن أريك أن في السياق المسيحي أنّ هناك أدلة تقليدية من نوعية “الكنيسة قالت” و”الآباء قالوا”. ولكن تم تخطي هذه الآراء بنسبة ما عندما تم تفكيكها لسياقها التاريخي والفلسفي. ومع الوقت، أصبحت سلطة الكتابات محصورة في النقاشات اللاهوتية، ولكنها لا تقود المجتمعات ناحية التسلسل الهرمي أو التمييز. هذا طبعًا هو الوضع في أوروبا، حتى في الأوساط المتدينة.

الأسئلة المطروحة علينا في سياقنا الشرق أوسطي الآن هي: كيف نتعامل مع التراث الديني والإنساني، وكيف نقدر على إعادة قراءته بحيث يكون تأثيره إيجابياً في حياة الناس وفي تقدم الحضارة؟ والسؤال الثاني هو: كيف نميز بين مشروعية المطلب وبين من يستغلون المطالب المشروعة لمصالح شخصية فردية؟ خصوصًا عندما تجد أناسًا يستغلون النزعة الذكورية، ونسويات يستغللن المطالب لمصالح مادية، لتشويه المطلب نفسه.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. هذه الفكرة شُرحت بشكل أكبر في كتابات كاثرين بيتشر لأنجيلينا جريمكي. [🡁]
  2. ستجد نفس الفكرة في الخطاب الخاص بكاثرين إستر بيتشر. [🡁]
  3. Helen King, Hippocrates' Woman, Routledge, 1998, p.28 [🡁]
  4. Helen King, Hippocrates' Woman, Routledge, 1998, p.27 [🡁]
  5. كليمندس السكندري، المُربّي، الفصل 3، الفقرة 3. [🡁]
  6. Donna L. Lillian, A thorn by any other name: Sexist discourse as hate speech, ResearchGate, 2007 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 0 حسب تقييمات 0 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

چون إدوارد
[ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎