في زحام الحياة اليومية وضجيج القضايا الكبرى، تضيع قصص إنسانية كثيرة تستحق الوقوف عندها. من بين هذه القصص، قصة المتنصرين في مصر: مواطنون مصريون اختاروا طريقًا مختلفًا لإيمانهم، فوجدوا أنفسهم في دوامة من الأزمات القانونية والاجتماعية والنفسية التي لا تنتهي.
الأزمة القانونية: مواطنون بلا هوية
المفارقة المؤلمة تبدأ من هنا: الدستور المصري يكفل حرية العقيدة، لكن الواقع القانوني يحكي قصة مختلفة تمامًا. فالمتنصر في مصر يجد نفسه في حالة “لا قانونية” غريبة؛ إذ لا يستطيع تغيير ديانته في بطاقة الرقم القومي، ولا يستطيع الزواج رسميًا، ولا يمكنه توثيق أطفاله بشكل صحيح.
تخيل أن تعيش في بلدك دون أن تستطيع استخراج أوراق رسمية تعكس حقيقتك؛ أن تظل “مسلمًا” على الورق بينما أنت مسيحي في قلبك وممارساتك. هذا التناقض يخلق حالة من الانفصام بين الهوية الحقيقية والهوية الرسمية، ويحوّل حياة هؤلاء المواطنين إلى معاناة يومية مستمرة.
الزواج يتحول إلى كابوس قانوني، وإنجاب الأطفال يصبح معضلة إدارية، وحتى الموت لا يأتي بسلام: فكيف تدفن إنسانًا مسيحيًا بينما أوراقه تقول إنه مسلم؟
العزلة الاجتماعية: غرباء في وطنهم
لكن الأزمة القانونية ليست سوى قمة جبل الجليد، فالتحدي الأكبر ربما يكون اجتماعيًا. المتنصر في مصر غالبًا ما يجد نفسه منبوذًا من عائلته، ومقاطعًا من أصدقائه، ومرفوضًا من مجتمعه. القطيعة مع الأهل قد تكون كاملة وقاسية، والوحدة تصبح رفيقًا دائمًا.
في مجتمع يعتبر الدين والعائلة من أهم ركائز الهوية، يفقد المتنصر الاثنين معًا. يصبح غريبًا في وطنه، لا ينتمي بالكامل إلى مجتمعه الأصلي الذي رفضه، ولا إلى المجتمع المسيحي الذي قد ينظر إليه بحذر أو شك. حتى في العمل، قد يواجه المتنصر تمييزًا أو تضييقًا إذا عُرف أمره. الخوف من الفضح يصبح هاجسًا يوميًا، والتخفي يتحول إلى أسلوب حياة.
الثمن النفسي: ندوب لا تُرى
وماذا عن الأثر النفسي لكل هذا؟ تخيل أن تعيش في خوف دائم، وأن تخفي جزءًا أساسيًا من هويتك، وأن تكذب يوميًا لمجرد أن تعيش بسلام. هذا الانشقاق بين الذات الداخلية والوجه الذي تقدمه للعالم يخلق ضغطًا نفسيًا هائلًا.
القلق المزمن والاكتئاب والشعور بالذنب تجاه إخفاء الحقيقة وفقدان الثقة في الآخرين، كلها أثمان نفسية باهظة يدفعها المتنصرون. وفي غياب الدعم النفسي المتخصص والآمن، تتفاقم هذه المعاناة.
الأطفال المولودون في هذه الظروف يعيشون في ارتباك هوية مزدوج، محاصرين بين حقيقة عائلتهم وما تفرضه عليهم الأوراق الرسمية والمجتمع.
نداء إنساني: حان وقت الحل
هذه ليست دعوة لموقف ديني معين، بل هي نداء إنساني وقانوني بحت. نحن نتحدث عن مواطنين مصريين، عن بشر يعيشون بيننا ويعانون في صمت، محرومين من أبسط حقوقهم المدنية.
الدولة المصرية، التي أثبتت قدرتها على معالجة قضايا معقدة كثيرة، قادرة على إيجاد حل عملي لهذا الملف. الحل لا يتطلب تغيير الثوابت، بل يتطلب إرادة سياسية لإيجاد صيغة قانونية تحفظ كرامة الإنسان وتحترم اختياراته دون الإخلال بالنظام العام.
- دول كثيرة في المنطقة والعالم واجهت تحديات مشابهة وتوصلت إلى حلول عملية تحترم التنوع وتحفظ الحقوق. مصر، بتاريخها الحضاري وتنوعها الثري، قادرة على أن تكون نموذجًا في هذا المجال.
خاتمة
في النهاية، القضية ليست عن دين ضد آخر، بل عن حق الإنسان في أن يعيش بكرامة، وأن تتطابق هويته الرسمية مع حقيقته الشخصية، وأن يُعامل كمواطن كامل الحقوق والواجبات.
المتنصرون في مصر ليسوا أعداءً، وليسوا مؤامرة، وليسوا تهديدًا. هم مواطنون مصريون يستحقون أن نسمع معاناتهم، وأن نعترف بوجودهم، وأن نعمل جميعًا -دولةً ومجتمعًا- على إنهاء أزماتهم التي طالت.
حان الوقت أن نتحدث، حان الوقت أن نستمع، وحان الوقت أن نجد حلولًا إنسانية لمشكلة إنسانية.