لنصطلح أولًا..
قبل أن نبدأ نقاشًا أو رأيًا أو إختلافًا عن الرأي السائد في المجتمع، نعلنها واضحة؛ لابد من ضبط بعض المصطلحات المُضللة، إن أردنا أن تكون للآراء قيمة موضوعية لا مجرد ترديد ببغائي لكلام الجاهلين بعلم الأيديولوچي [1].
في البدأ كان كارل ماركس، مؤسس علم الاقتصاد، وبغيره لم يكن شيئًا مما كان.
في الاقتصاد الماركسي، أقصى اليسار هو الـCommunism (الشيوعية كأيديولوجيا)، وأقصى اليمين هو الـFascism (تقديس رئيس الدولة كأيديولوجيا) [2].مع ملاحظة أن “يمين” و “يسار” اللتين نكتبهما بالأعلى، تعنيان الموقع على المحور الاقتصادي، ولا تعني اليمين أو اليسار السياسي.
قديمًا، كان اليمين السياسي واليسار السياسي يقاسان بالموقف من النظام الحاكم (الملك)، بمعنى أن الذين على يمين الملك؛ هم أنصاره السياسيون وفريقه من المؤيدين المُطيعين دون مراجعة، وعلى يسار الملك؛ هم المعارضون السياسيون ومنتقدو السلطة. مع الأخذ في الاعتبار أن الدين عندما كان جزءًا من نظام الحكم في نظم الإمبراطوريات المقدسة (العصر الوسيط)، كان اليمين واليسار ليس مجرد موقف من الملك، وإنما موقف من الله شخصيًا. بمعنى أن رجال الدين ورسله وأنبيائه والمسيح ذاته هم على يمين الآب- الله (ومنها “اللهم اجعلنا من أهل اليمين” في الثقافة الشعبية)، وأما الكفار والعرابيد والزعر وقريش والشعب الأسمر القذر الذي يريد حريات وفسادًا وقلة أدب، وتقع عليه عقوبات يد الله، فهم اليسار (ومنها “الناس الشمال” في الثقافة الشعبية) [3].
تعود الثنائية المشهورة اليوم باليمين واليسار إلى صيف عام 1789 إبان اندلاع الثورة الفرنسية، عندما اجتمع أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية لصياغة الدستور وإجراء تعديلات تشريعية حيال مدى السلطة التي يجب أن يتمتع بها الملك “لويس السادس عشر”. انقسم المجتمعون في المجلس إلى مجموعتين رئيسيتين؛ حيث جلس الثوار المناهضون للملكية على يسار مسؤول المجلس، فيما تجمع أنصار الملكية الأرستقراطية الأكثر محافظة على اليمين. وبذلك أصبح هذان المصطلحان يعبران عن اتجاهين سياسيين مختلفين، لكنهما لم ينحصرا في فرنسا ولا في الغرب الأوروبي، بل امتد كل منهما ليصبح مفهومًا عالميًا يحكم مساحات النقاش في المجال العام، حتى في العالم العربي [4].
تُزوِّد الأيديولوجيا الأفراد والجماعات بخارطة أفكار ومفاهيم عن كيفية عمل مجتمعهم، وكيف ينبغي أن يكون، وماذا يجب أن نفعل حتى يصير المجتمع على صورة مثالية منشودة تصبو إليها كل أيديولوجيا على طريقتها. ومن ثم تضخ الأيديولوجيا في أتباعها خطابًا فكريًا ومُحَمَّلًا بالمشاعر في الوقت نفسه. على سبيل المثال، تقول الشيوعية إن الطبقات الثرية هي السبب الرئيسي في تشكيل الواقع الذي نعرفه وفي اضطهاد الطبقات الأفقر، ولذا فإن التغيير يحدث بتقويض هذه الطبقة الثرية وإعادة توزيع الثروة والوصول إلى حالة مثالية تنعدم فيها الطبقة. وعلى هذا، وللوصول إلى هذه الحالة المثالية، فمن الأخلاقي الثورة الحمراء (العنفية الدموية) على الأغنياء للوصول للحكم وإعادة توزيع ثرواتهم على الفقراء.
تقع الشيوعية على أقصى يسار الطيف السياسي. واليسار في العموم موقف أيديولوجي واسع، يتبنى اليسار الديمقراطي بعض المبادئ الأساسية مثل لا مركزية السلطة، وأهمية الحرية والتقدم، وضرورة المساواة وتلاشي الطبقات الاجتماعية. وعلى الجهة الأخرى، يقع اليمين، وهو موقف أيديولوجي واسع أيضًا، مبادئه الأساسية مركزية السلطة، وأهمية النظام، وضرورة التراتبية الهرمية للمجتمع والعناية بمفاهيم الواجب الأخلاقي. ولذا يضم اليمين واليسار طيفًا واسعًا من الأيديولوجيات الفرعية، التي تندرج تحت كل منهما أو ربما تتوسط بينهما.
“ماركس” بعد الحرب العالمية الثانية
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 إلى 1945)، وانتصار دول الحلفاء
على دول المحور
، تشكَّل نظام عالمي جديد مكون من دول الحلفاء المنتصرة، بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (دول تدعم اليمين) والاتحاد السوفيتي والصين (دول تدعم اليسار)، والملاحظ هنا أن العديد من الأيديولوجيات السياسية بهت حضورها في المنافسة السياسية، وغالب النقاش في المجال السياسي يُستَقطَب لصالح تيارَيْن رئيسيَّيْن هما؛ المحافظة والليبرالية [5].
على المستوى الأوسع، ينحاز معظم الناس لمواقف سياسية وأخلاقية دون أن يُدركوا تماما الأُطر النظرية للأيديولوجيا التي يؤمنون بها، لذلك، ساعد هذا على إنتشار ثنائية: (محافظ / ليبرالي)، بدلا من ثنائية: (يمين / يسار). وشاع عند الأفراد تعريف أنفسهم وأفكارهم بطريقة عملية للتمييز بين المحافظة والليبرالية، تكمُن في تعريف كلٍّ منهما من خلال مواقفهما إزاء قضايا معينة سياسية واقتصادية واجتماعية، بدلا من الانهماك في التعريف النظري، الذي هو ضروري لفهم السياقات التاريخية لتلك الأفكار وتطور مفاهيمها، لكنه لن يعنينا هنا في هذا السياق [6].
مطالع الألفية: البوصلة السياسية
عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في مطالع التسعينات، ظهر تطور جديد قدمته الليبرالية في عصر ما بعد الأيديولوجيات، وتم تبنيه على مستوى الجامعات الأكاديمية الغربية منذ مطلع الألفية. الجديد الذي قدمته الأكاديميا أنه لا يمكن تحديد الأيديولوجية السياسية بناء على المحور الاقتصادي الأفقي وحده، وأنه يجب إضافة محور اجتماعي (رأسيًا) بحيث تكون البوصلة السياسية مسطّحة وليس مجرد خط. النتيجة النهائية هي وجود أعلى وأسفل هنا غير اليمين واليسار [7].
المحور الاجتماعي المضاف حديثًا أعقد من مجرد الموقف من نظام الحكم (يميني / يساري)، في أقصاه تطرفًا عشر درجات للأسفل: الأناركية
، وفي أقصاه تطرفًا عشر للأعلى: الفاشية
. تحركك بنقطة على هذا المحور يمثل؛ نظرتك للمرأة، نظرتك للأب والنظام الأبوي، وما نظامك الأمثل للقيادة داخل أسرتك. هل ترى الزواج هو علاقة “خضوع مقابل إنفاق”؟ أم قائم على “المسؤولية المشتركة”؟، وما موقفك من الإجهاض؟ وما موقفك من التنوع الاجتماعي؟ (المثلية والغيرية واللاجنسية واللاإنجابية) هل تؤمن بضرب الأطفال كوسيلة للتربية؟ هل تؤمن بالعقوبات الجسدية كوسيلة لعقاب المجرمين؟ هل البشر خيرٌ بطبعه؟ أم لو أمن العقاب لأساء الأدب؟ وهل السجن كوسيلة عقاب أهم من تقويم المجرم؟ وامضِ هكذا وابحر في علم الاجتماع القادر على تحليل أفكارك داخل أي نظام قيادة، حتى لو داخل شلل الأصحاب أو الشركات أو الدول أو حتى الكنائس والجوامع كتجمعات للمؤمنين [8].
كلما كنت أكثر انفتاحًا اجتماعيًا، كلما كان موقعك في النصف الأسفل، والذي أوله المتزن: الليبرالية.
كلما كنت حذرًا وغير ميال للتغيير، كلما كان موقعك في النصف الأعلى، والذي أوله المتزن: المحافظة.
مرونة المرن لو زادت سيصبح Libertine [عربيد
]، لا يحب الإتزامات والنظام الجماعي، وهكذا، وصولًا إلى الأناركية [الفوضوية
].
وتصلب المتشدد لو زاد سيصبح سلطويًا استبداديًا (يتحكم في غيره خارج دائرة نفوذه الاجتماعية)، وهكذا، وصولًا إلى الفاشية، أي عبادة الملك وتقديسه كرمز للمملكة.
.. لنختلف ثانيًا
لماذا قلنا كل ما سبق؟
لأن تشارلي چيمس كيرك، توصيفه الدقيق إنه Authoritarian [سلطوي استبدادي
]، وأيضًا شوفيني [9].
والـ Authoritarian هي الدرجة الأعلى من محافظ
(Conservative)، وأقل من فاشي
(Fascist).
المحافظ هو خيار الحذرين من التقلبات، والمساكين في هرم السلطة، ويعبّر عن مجرد “مقاومة للتغيير” والتشبث بالقديم الذي نعرفه، أفضل من المغامرة بالجديد الذي نجهله. أما السلطوي الاستبدادي فهو المؤمن بالصحوة الدينية والعودة للجذور، وأنه لن ينتهي الغلاء حتى تتحجب النساء
، وهو ما يُمثل تبنّي أفكار قد تبدو محافظة، لكن ليس على مستوى القناعة الفردية، بل تتخطاها لسيادة الرأي على المحيطين. وتقترن بالدعوة بأن الالتزام هو بوصلتنا نحو الأصالة والعزة والمجد، وأننا الآن نعيش في مجتمع فاسد ومنحل أخلاقيًا، ولابد من العودة لأيام “العز الديني”. وحروب القرون الوسطى وقت أن كان بإمكان المجاهد أن يتخذ من مخالفينه عبيدًا [موظفين] لبيعهم في السوق وتفك زنقتك
. هل ذكّرتك الفقرة السابقة بالداعية الراحل أبي إسحاق الحويني؟
لا يهم، والمهم هو؛ هل تظن أن المسيحية “على رأسها ريشة” تحصّنها من أن تكون ديانة عنفية كحركات الإسلام السياسي؟ ماذا عن العودة لأيام الغزوات التي قام بها موسى ويشوع في أرض الموعد، وتقييد حريات المغايرين جنسيًا عن الاستخدام الطبيعي الذي قنّنه الرسول بولس، أو حتى معاداة المرأة ومعاملتها ككائن ثرثار أقل تفكيراً وينبغي أن تصمت؟
في كل رأي أيديولوجي، يمكن للأفراد تبرير سلوكياتهم من خلال قراءة دينية معينة لنصوص مقدسة عند معتنقيها، لاستحضار معاملات الماضي وبثها في الحاضر. حتى لو أدى ذلك لاستدعاء عصر قديم من الحروب الدينية والتاريخية.
السلطوي الاستبدادي هو نموذج نشط سياسيًا ومدعوم من الدولة وسلطاتها ورجال أعمالها. وخذها قاعدة دائمة: الأفكار السلطوية الاستبدادية تميل للاستحواذ على وسائل التغيير من الأعلى للأسفل، أي آليات الدولة، وليس آليات العمل الجماهيري كوسائل التواصل الاجتماعي.
بطريقة أخرى؛ النموذج السلطوي الاستبدادي هو صناعة الدولة. وتنشط هذه الصناعة أكثر مع الدولة الفاشية.
أنظمة الحكم الفاشية التي تعتمد العنف، لا بد لها من العمل على تفشي العنف في شعوبها حتى تتقبل عنف الحاكم.(الكاتبة الليبرالية: رباب كمال، في حفل توقيع أحد كتبها)
الرئيس الفاشي دونالد ترامب
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تصنيفه الأيديولوجي المُعلن على الموقع الدولي للبوصلة السياسية هو المربع (+9،+9) أي أقصى اليمين، أقصى الفاشية [10]. وفي الوقت الذي أغلق فيه مؤسسات حقوق الإنسان الأمريكية، وأوقف التمويل المدني لها وأحال العاملين فيها لمحاكمات [11]، افتتح -في رئاسته الأولى- مكتب
الإيمان والفرصة
، لجعل المنظمات الدينية تحصل على تمويل حكومي متساوٍ، وعين عليه سكوت لويد
، أشهر معارضي الإجهاض. وفور بدء فترة رئاسته الثانية، أنشأ مكتب إيمان البيت الأبيض
وعين عليه القس پاول هارڤي
، أبرز معارضي التنوع الجنسي [12].
الداعية تشارلز چيمس كيرك
تشارلي أتقن لعبة الدعوة
منذ صباه، ففي سنته الأخيرة من المرحلة الثانوية، أطلق حملة داخل المدرسة اعتراضًا على زيادة أسعار البسكويت، كما كتب مقالًا في موقع برايت بارت نيوز
تناول فيه ما اعتبره تحيزًا ليبراليًا في الكتب المدرسية الثانوية، الأمر الذي أدى إلى استضافته في قناة فوكس بيزنس [13].
خلال مشاركته في
يوم تمكين الشباب
، التقى بويليام توماس مونتجمري، وهو ضابط متقاعد يكبره بنصف قرن، شجعه على ترك دراسته للتفرغ للنشاط السياسي، الأمر الذي قاده لتأسيس منظمة Turning Point USA [نقطة تحول أمريكا
]، منظمة طلابية ذات توجهات محافظة. وفي المؤتمر الوطني الجمهوري لعام 2012، إلتقى بالمانح الجمهوري فوستر فريس
، الذي وفر الدعم المالي للمنظمة [14].
التحق تشارلي مدَّة وجيزة بكلِّية هاربر قبل أن يتركها ليتفرَّغ تمامًا للنشاط السياسي ولم يكمل تعليمه منذ حينها. إذ نمَت منظمته الطلَّابية المحافظة بسرعة، ووسَّع تشارلي نفوذها بإقامة مبادرات القوائم السوداء لمراقبة الأساتذة ومجالس المدارس، التي قال منتقدون إنها سعَت إلى طرد أو إسكات الأساتذة والمربِّين بحمَلات مضايقة؛ بسبب آرائهم المخالفة لمواقف المنظمة. في عام 2019، أسَّس منظمة نقطة تحوُّل للعمل السياسي، الذراع السياسي للدعوة، وهي مؤسسة غير ربحية معفاة من الضرائب تستهدف الناخبين الديمقراطيين [15].
في يوليو 2019 استحوذت نقطة تحول على منظمة طلاب من أجل ترمب
وجميع أصولها الإعلامية [16]. وأطلقت حملة استهدفت تجنيد مليون طالب لدعم حملة إعادة انتخاب الرئيس دونالد ترمب [17]، غير أنها لم تحقق أهدافها، مما أدى لتوجيه اللوم إلى المنظمة وحملة ترمب بشأن تراجع الدعم الشبابي للرئيس في انتخابات 2020 [18].
في عام 2020، أجرت مؤسسة بروبابليكا تحقيقًا في الشؤون المالية لمنظمة نقطة تحول، وأفادت أنها قدّمت ادعاءات مالية مضللة، وأن عمليات التدقيق لم تُنفَّذ بواسطة مدقق مستقل، واتهمت تشارلي كيرك بالاستفادة الشخصية من خلال دعم الرئيس دونالد ترمب. في العام نفسه، إرتفع راتب تشارلي كيرك من 27 ألف دولار إلى ما يقارب 300 ألف دولار، واشترى شقة في لونجبوت كي بولاية فلوريدا بلغت قيمتها نحو 855 ألف دولار. بلغت إيرادات منظمة نقطة تحول في 2020 نحو 39.2 مليون دولار، فيما تلقى كيرك راتبًا يزيد على 325 ألف دولار من المنظمة ومن كيانات مرتبطة بها [19].
في عام 2021، أعلنت منظمة نقطة تحول عن إطلاق أكاديمية عبر الإنترنت بالشراكة مع شركة التعليم StrongMind. تحدد افتتاح الأكاديمية بحلول خريف 2022، وإمكانية تحقيق أكثر من 40 مليون دولار من الإيرادات في حال تسجيل 10,000 طالب. لكن الشراكة انفضت بعد تلقي StrongMind إستقالات احتجاجية من موظفيها، كما انسحب المقاول الأول Freedom Learning Group الذي أعد محتوى الدورات بعد معرفة أنه سيتم تشغيل الأكاديمية بواسطة نقطة تحول [20].
لاحقًا وبالتعاون مع القس روب ماكوي
أسَّس عام 2021 مبادرة نقطة تحوُّل للإيمان عندما لم تجدد جامعة ليبرتي عقده مع مركز فالكيرك للإيمان والحرية، وتركز على تجنيد القساوسة وقادة الكنيسة للمشاركة في القضايا السياسية. وتشمل أنشطتها تنظيم حملات للناخبين الجمهوريين قائمة على جمهور الكنائس. ووفقًا لنشرة المستثمر لعام 2021، كان البرنامج يهدف عبر ميزانية قدرها 6.4 مليون دولار إلى “معالجة الأساس الديني المتداعي لأمريكا من خلال إشراك الآلاف من القساوسة في جميع أنحاء البلاد”، بغرض “بث روح المشاركة المدنية المتجددة في كنائسنا” [21].
في ديسمبر 2022، أعلن تشارلي عن إطلاق مشروع ماونت فيرنون
، وهو مبادرة تابعة لنقطة تحول تستهدف إبعاد الأعضاء في اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري الذين لم يتحالفوا مع ما يُسمى بـ”المحافظين الشعبويين”، إضافةً إلى وقف التبرعات عن الأعضاء الذين “صوّتوا بطريقة مخالفة” [22].
الذراع الديني للحزب الجمهوري
يمكننا القول بثقة أن تشارلي كيرك هو فعليًا الذراع الانتخابي لدونالد ترامب، ويعمل لحسابه ولحساب كبار الممولين الجمهوريين، باعتبارهم السلطة التي تدفعه وتجعله نجم المناظرات. تصل مؤسسة نقطة تحول ملايين الدولارات لخلق تيار شعبي للتطرف البرتقالي، بحيث يبدو المشهد ديمقراطيًا مسيحيًا، لشعب ذي أغلبية مسيحية محافظة، تدعم رئيسًا برتقاليًا مسيحيًا فاشيًا.
لو نظرنا بموضوعية إلى مجمل نشاطه الدعوي، فسنجد فيه تيارًا شعبويًا لتعزيز سلطة مستبدة قائمة، وليس تيارًا للتغيير أو للحداثة، أو تفكيرًا خارج الصندوق، أو حتى تيارًا ناشئًا عن مطالب. بل هو تيارٌ دوره تقييد الجماهير وتذكيرهم بالتزاماتهم تجاه السلطة (بما فيها السلطة الدينية)، وليس لتحقيق مطالبها أو مصالحها.
الرجل من أنصار حقوق الله، وليس حقوق الإنسان! الخطاب وعظي ديني بطريقة شبابية ساخنة، وخارج جدران الكنائس، ومُشتبك مع المجال العام ومؤثر فيه سياسيًا. ومع كامل احترامنا للخطاب الديني، إلا أنه خطاب يتحدث عن “الالتزامات” و”الواجبات” من المواطنين، وليس الحقوق والحريات للمواطنين.
أتصور أنه قديس بار في عيون الإله ترامب، وبالتأكيد هو يقدم فائدة عظيمة للأم والأب المحافظين المسيحيين في الولايات المتحدة، لأن كلامه هو نفس كلام الكنائس المحافظة، وبطريقة تستهدف الشباب. بالتالي مثلًا، القبطي المهاجر سيدفع أولاده وبناته لحضوره، وينعمون جميعًا بإحساس “الغربة وسط عالم استهلاكي”، وتغذية شعور “المسيح المضطهد” حتى وسط العالم الأمريكي المسيحي الأفضل من غيره. ولا تظن مثل هذه النظرة تشاؤمية أو هامشية، بل محور دراسات أنثروبولوجية مهمة للباحثة كانديز لوكاسيك، طرحتها في ورقة بعنوان: اقتصاد الدم
، تتناول فيها العلاقة الدائرية بين الاقتصاد الأمريكي، والإضطهاد للمسيحي، والهجرة لأمريكا [23].
الموت العادل
موت العراب تشارلي كيرك هو نتيجة عادلة في التصورات الأخلاقية للكثيرين. ليس من أجل أفكاره، فهو في الحقيقة حر تمامًا في تبني ما يشاء من أفكار، وحر أيضًا في الإفصاح عنها ونشرها والتربح منها، لأنه في نهاية المطاف كانت كل وسائله: كلامًا، وإن كنت أرى كثيرًا من أفكاره مستهلكة أو قديمة أو مليئة بمغالطات منطقية وبتوظيفات سياسية ستسبب إشكاليات لاحقة. لكن الموقف الذي لا أستطيع أن أتصالَح فيه مع أفكار “تشارلي كيرك” هو موقفه من العنف المسلح. فهو كان يرى (على عكس ترامب، وعلى شاكلة اليسار الشرقي الأسمر لدينا) أن حيازة الأسلحة شيء جيد، وله أبعاد أخلاقية في حماية النفس والأسرة.
ربما يكون من المهم هنا فهم ثقافة الولايات المتحدة، وأنها نشأت من رعاة بقر ومرت بحروب أهلية، بالتالي أصولهم الشعبية مسلحة وتميل لاقتناء السلاح على مستويات شعبية، والأب المؤسس توماس چفرسون قال: الشعب المسلح لا يحكمه ديكتاتور
. فبالتالي هذه التقاليد القديمة أشبه بعقيدة أمريكية، وتشارلي كيرك كان مؤمنًا بها وله مناظرات (مغرقة في التنظير بشكل غير واقعي) حول أن الوضع العادل أن الجميع من حقه اقتناء سلاح.
لا أريد أن أشتبك كثيرًا مع مُعضلة “حمل السلاح في أمريكا”، لأني ببساطة لستُ مقيمًا هناك، لكن موقفي العام أن الدول المتحضرة الحديثة يجب أن تحتكر العنف، ويكفي للمدنيين في وقت الأزمات السلاح الأبيض لأغراض الردع الداخلي. تأمل كيف قُتل تشارلي من تلك المسافة بطلقة واحدة في الرقبة؟ (ولو أمعنت البصر إلى الفيديو ستجد أن تشارلي دائم الحركة بجذعه ورَأسه، أقرب لهدف متحرك). رقبة صغيرة تتحرك على بعد ١٥٠ مترًا، من يستطيع ضربها بطلقة واحدة من المرة الأولى إلا لو كان قناصًا محترفًا؟ من هنا نفهم خطورة البيئة الأمريكية المُسلحة التي نشأ فيها القاتل، والتي أهلته تأهيلًا عسكريًا في مجال القنص وهو لم يكمل ٢٢ عامًا! هذه ليست مهارات تلامذة جامعة يوتا، ليست مهارات مدنية على الاطلاق! وهي -للأسف- مهارات يُحبها جدًّا عراب التسليح الأمريكي تشارلي كيرك، الذي طالما دافع عن حق روبنسون في تسليحه بكلامه اللا مسؤول المُغرق في التنظير للعنف المسلح.
في الوقت نفسه، ولو أخذنا على كلام الذين يعيشون هناك، صديقة لي مقيمة في الولايات المتحدة، ومن رافضي التساهل في حيازة الأسلحة النارية، تؤكد أن “تشارلي” كان يظهر بعد كل مذبحة فيها أطفال قتلى وجرحى ليؤكد أن هذا ثمن طبيعي ومقبول لحرية امتلاك سلاح بدون قيد أو شرط، وأن المخاطر في تقييد السلاح أكبر. أمريكا بها الكثير ممن يطلبون ضبط وتقييد مسألة السلاح. وعلى فكرة، يتكلمون في أشياء تبدو بديهية، مثل تقييد بيع السلاح للناس الذين لديهم خلفية إجرامية أو أمراض نفسية وعصبية. وسط أرقام تقول إن أعداد الضحايا في العشر سنوات الأخيرة تقارن بضحايا الحروب الأهلية، نتيجة عدم تفعيل هذه القوانين من الدولة بحثًا عن الربح السريع للمصنعين (وأمريكا أكبر مُصنّع للسلاح طبعًا).
وإن كنت لا أريد الاشتباك مع الثقافة الأمريكية في مسألة حمل السلاح، إلا أننا مجبرون على الاشتباك مع الادعاء بأن هذه الثقافة الأمريكية هي ثقافة مسيحية! إذ تحظر قوانين الكنيسة خلال القرون الأربعة الأولى على الأقل حمل السلاح ولو دفاعًا عن النفس [24]، وتمنع التجنيد الإلزامي [25]، والانضمام للجيش [26].
كما أن التعديل الأول على الدستور الأمريكي مُشتق من عبارة «جدار الفصل بين الكنيسة والدولة»، وهي العبارة التي كتبها توماس جفرسون عام 1802 في خطابه إلى جمعية المعمدانيين. والسؤال هنا؛ كيف لمن يحتج بمقولة چفرسون: الشعب المسلح لا يحكمه ديكتاتور
، ألا يقرأ بقية أقواله وخطاباته التأسيسية التي «تحظر» على الدولة «إحترام» مؤسسة دينية؟ وبالتالي بناء جدار الفصل بين الكنيسة والدولة.
أؤمن مثلكم بأنّ الدين مسألة متمثّلة بالعلاقة بين الإنسان وإلهه وحسب، إذ الإيمان والعبادة واجب له وليس لأحد آخر، فالصلاحيات الشرعية للحكومة متعلّقة بالأفعال وحسب وليس بالآراء. إنّي أتأمل في تقديس السيادة بفعل الشعب الأمريكي كلّه الذي أعلن أنه على الهيئة التشريعية «عدم وضع قانون يحترم مؤسسة دينية، أو يحظر ممارستها بحرّية»، وبالتالي بناء جدار الفصل بين الكنيسة والدولة.[27](توماس جفرسون، في خطابه إلى جمعية المعمدانيين، دانبري، ١٨٠٢)
الضحية، تشارلي كيرك، على البوصلة السياسية مثل قاتله، تايلر روبنسون، كلاهما بنفس التركيبة الدماغية اللاّمرنة التي تهرع للتحدي مؤمنة بامتلاك الحقيقة. وكلاهما من أسرة محافظة سلطوية ترسخ سلطة الآباء على الأبناء (النموذج المُفضل عند الشرقيين). وكل الفرق أن القاتل روبنسون ليس من هواة الكلام والتنظير، وإنما تربّى كطفل ثري وسط ترسانة سلاح، جلبها له أبوه (الذي سلّمه للشرطة!).
مقتل تشارلي هو موت عادل، يجحِظُ في وجه كل متدين فاشي مؤمن بأن العنف المسلح آلية بقاء.
مقتل تشارلي هو موت عادل، يُذكَّر كل مدعٍ منتسبٍ للمسيحية بقول المسيح: رد سيفك، لأن من يعيش بالسيف، بالسيف يُقتل
.
وإعدام روبنسون سيكون موتًا عادلًا أيضًا، ليُذكّر كل مُنظّر مؤمن بحركات المقاومة المسلحة، أن “أنتيفا” [28] هي حركة إرهاب، مثلما كل حركات الإرهاب تتبنى “قيمًا عظيمة” كمسوغ لبقائها في وجدان المؤمنين بهذه القيم. لكن من يُصدّق ومن يتعلّم القيم من حفنة من القتلة؟
المنادون بإلغاء عقوبة الإعدام
وعلى الرغم من فوارق تناول مقتل «تشارلز چيمس كيرك» بين الشرق والغرب، إلا أن الجماهير العاطفية العجيبة، المشحونة بخطاب يرى رومانسيةً ما في القتل والدم، من عينة الذين ظهروا بعد حادث نيرة أشرف [29] أو حتى أبينا إبيفانيوس المقاري [30]، ويريدون عدم معاقبة المجرم، لأنه رومانسي وبتاع ربنا ودرجاته الدراسية مرتفعة، واضح أنهم موجودون في أمريكا أيضًا! أكثر من 63000 (63K) من مستخدمي انستجرام وتيك توك يتوسلون للولايات المتحدة لإطلاق سراح تايلر روبنسون، قاتل تشارلي كيرك، بعد اكتشاف أنه حصل على 4.0/4.0 CGPA وحصل على منحة دراسية للدراسة في جامعة يوتا. الكثير يقول إن تايلر لديه مستقبل مشرق سيضيع بسبب خطأ صغير، وآخرون يجادلون في غياب دافع القتل العمد لأن كلا والديه من المورمون المحافظين المسيحيين ومن عائلة ثرية مشهورة بالكرم.
بصدق شديد، هذه واحدة من الفرص التي من الأخلاقي الجهر فيها بطلب عقوبة الإعدام للقاتل الوسيم الذي لا يترك للصلاة فرضًا! فقط نأمل أن تنتبه الإدارة الأمريكية وتُقيّد حيازة السلاح، ولا يُسمح إطلاقًا بتعليم الأطفال ضرب النار من أبويهم، فلا ينمو مثل روبنسون في ترسانة وبيئة تسمح لمواطن نصف مراهق بالقتل الاحترافي بهذه الطريقة اللعينة.