تابعت، بعد عصر كيلو ليمون أضاليا [1] على نفسي، بمزيد من الغثيان والامتعاض والرغبة في القيء، الجزء الثالث من المسلسل الذي تلتف حوله الأسرة المصرية بكامل أفرادها، وهم يرتدون البيجامات الكستور، هذا المسلسل الذي لا يخجل الأبُ المصري من أيا من مشاهده الجميلة أمام أبنائه: "أبو العروسة" الجزء الثالث، الذي لا يمت عنوانه بأي حال من الأحوال لمحتوى هذا الجزء.

وبغض النظر عن ركاكة التمثيل المفرط من معظم أبطال العمل، وأعتقد أن سببها هو لزوجة السيناريو والحوار، والمط والتطويل المبالغ فيهم، وعدم وجود أحداث حقيقية، جعلت الملل سيدًا للموقف يتربع جالسًا القرفصاء فوق شاشة التليفزيون، إلا أن شخصية عبد الحميد منصور جاد الله، كان لها نصيب الأسد من هذه الركاكة والرغبة في المثالية المفرطة، فالأب، رب الأسرة يعيش منفصلًا عن الواقع، لا يزال يعيش بكل جوارحه في الحِقْبَة الناصرية المثالية، حيث كل شيء مثالي بامتياز.

عبد الحميد منصور جاد الله، مواطن مصري مثالي نمطي، نحيف نحافة “عصاية المقشة”، لا يأكل كثيرًا كتعليمات الحكومة، لكنه لا يلتزم بتعليمات الدولة بشأن تنظيم الأسرة، فاشل بامتياز طول حياته، لا يمتلك أي موهبة أو حرفة أو شهادة مميزة، عمل بالجهاز الحكومي طيلة حياته موظف سقيم عقيم، لم يجازف ولم يسعى لتحقيق أي نجاح يذكر، يخاف من المجازفة، لا يكل ولا يمل من ترديد الشعارات البراقة الخاوية طول الوقت.

عندما خرج ابنه الكبير أكرم من دائرة العمل الحكومي واتجه للعمل الحر، ودخل بقوة في مجال التسويق، وبدأت حياته تتغير للأفضل، لم يسلم من لوم الأبُ الفاشل، الذي ربما تخوف على عكس السائد بشأن كل الآباء أنهم يتمنون، أن يتفوق أبنائهم عليهم، إلا أن عبد الحميد كان له رأيًا آخر، تخوف من أن يصنع الابن نجاحًا يبرهن به على فشل الأبُ المتشدق بالشعارات البراقة طول الوقت، عبد الحميد يلوم ابنه باستمرار على سعيه الدؤوب للنجاح والادخار، مغلفًا غيرته التي لم يستطع أن يُخفيها بخوفه على ابنه أن يكون محبًا للمال، فالمواطن المثالي من وجهه نظر الدولة لابد أن يكون فقيرًا، فالفقراء يدخلون الجنة على رأي الزعيم عادل أمام.

في الجزء الثالث تقابل عبد الحميد مع “أنفلونسر” أو صانعة محتوى على اليوتيوب، فتاة دؤوبة تعاني بعض المشاكل الأسرية، لكنها على الجانب الآخر ناجحة بشكل لافت للنظر، وتدر دخلًا مهولًا مقارنة بالعمل الذي تقوم به، هذا الذي لم تستطع عقلية سطحية مثل عقلية عبد الحميد استيعابه، فالمواطن المثالي لابد أن يعمل منذ شروق الشمس إلى غروبها في عمل شاق “ستاليني”، يدر عليه دخلًا معقولًا بالكاد يكفيه شظف المعيشة والحياة، لكن وجود نموذج لفتاة، ناجحة، غنية، عملها مسلي وغير شاق، ولا يستغرق منها ساعات طويلة تقضيها خلف مكتب حديدي بارد، ولا تبذل مجهودًا بدنيًا شاقًا، هو أمر يراه عبد الحميد غير عادل، ويطلب منها بكل صفاقة وأنانية أن تدمر عملها الذي بذلت فيه الكثير من الوقت والمجهود، وتتبنى عبر قنواتها على وسائل التواصل الاجتماعي موهبة أحد أصدقائه الذي يقدم قصصاً للأطفال، قصصًا لا تتناسب ولا تتفق قطعًا مع المحتوى الذي تقدمه تلك “الأنفلونسر”، ويؤذيها ماديًا بشدة، لكن كل ذلك لا يهم، المهم أنها ستبهج صديقه العجوز.

عبد الحميد منصور ابن الجهاز الإداري المترهل الذي بناه في الستينيات، ونشأ وترعرع فيه طوال عقود طويلة لا يكف عن لوم ابنه طوال الوقت، لأنه يغرق نفسه في العمل، ويسعى بكل أمانة ليصنع نجاحًا ملحوظًا في سن صغيرة، لكن عقلية عبد الحميد منصور ترفض بكل حب الذات والنفس نجاح ابنه أكرم لأنه يهدم نظرياته الفاشلة في التربية، ويؤكد له أمام نفسه أن خطبه الرنانة المثالية لم تصنع إلا إنسانًا فاشلًا عديم القيمة مشحون بالشعارات الناصرية الزائفة التي كانت يومًا ما تُكتب على غلاف الكتب الحكومية، نجاح الابن أكرم يضرب بفلسفة عبد الحميد عُرْضَ الحائط ويقتلها بسكين منثلم.

عبد الحميد الأناني يكتم بكل أنانية العالم كله معرفته بتلك “الأنفلونسر” الشهيرة وهو يعلم تمام اليقين أن ابنه ظل يبحث عن فرصة واحدة كي يلتقي بها ليتمم بها مشروع يدر عليه أرباح وفيرة، وعندما يعلم الابن بذلك ويواجه آباه، يستخدم الأبُ حيلة رجل القش ليحدثه عن القيم الأسرية، وكيف يجب على أكرم أن ينحي عمله جانبًا كي يخدم الآخرين.

حتى ملاك صديق عبد الحميد، وزميله في نفس الجهاز الإداري الحكومي الفاشل، لا يكف عن لوم أخته على استمتاعها بالحياة عندما فتح الله على زوجها بالأموال الوفيرة، وكأن الاستمتاع بالحياة هو إثم وخطية يجب أن نعتزلها، وعندما ربحت الأخت وزوجها طبيب الأسنان تَذْكِرَة الهجرة العشوائية لأمريكا، ثار الأخ الفاشل، وهاج وماج معددًا مزايا الحياة التعيسة داخل مصر، ويحصي مساوئ الحياة في أمريكا، مواطن ناصري بامتياز مثل صديقه عبد الحميد، تسألت كثيرًا هل قدم لنا السيناريست هاني كمال نموذج الفاشل عبد الحميد كي نجتنبه؟ أم ليكون قدوة ومثالًا انطلاقًا من قناعات السيناريست الدينية المسيحية الموظفة ذميا؟

حتى شهر واحد من الْآنَ كنت أعتقد أن مسلسل ونيس بطولة شرطي الأخلاق الفنان محمد صبحي هو المسلسل صاحب نصيب الأسد في اللزوجة والركاكة والبحث الدائم عن المثالية المفرطة، لكن أبو العروسة تفوق عليه بمراحل، قبل أن يلفت انتباهي أحد الأصدقاء أن ونيس أبو الفضل جاد الله عويس، وعبد الحميد منصور جاد الله، يشتركان في نفس اسم الجَدّ، فربما كان الأمر وراثيًا أو أن المشكلة في اسم جاد الله.


[1] “الأضاليا: “نوع من الليمون يتم استيراده من الخارج، ويتوافر في الأسواق بسعر أقل من الليمون المتعارف عليه.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤