المقال رقم 2 من 2 في سلسلة المحاكمات الكنسية
«( المحاكمات الكنسيةwp-content/uploads/2025/09/المحاكمات-الكنسية.jpg

دعونا ننطلق من نقطة البداية “المسمى”، الذي لا يتسق مع رسالة الكنيسة، التي تقر التأديبات الكنسية على غرار العائلة التي تؤدب أولادها ولا تحاكمهم، والسلطان فيها روحيًا وليس ماديًا، وهو سلطان المحبة التي تظهرها الكنيسة تجاه أعضائها وسلطان الطاعة التي يظهرها المؤمنون ـ طواعية ـ تجاه الكنيسة حسب تعبير أحد الآباء المعاصرين.

وغاية التأديبات الكنسية تتجاوز إنزال عقاب على المخطئ بل رده عن طريق ضلاله، وهنا تتضح فلسفة العقوبة الكنسية، وفي هذا يقول أحد الباحثين إن الحكم الكنسي في حالة التأديب الكنسي على الأخص يهدف إلى شفاء التائب. ومن هنا بدأ يظهر الخيط الذهبي الرعائي الذي يتغلغل في أحكام التأديب الكنسي في العهد الجديد، فهو تأديب للخلاص والشفاء وليس للعقاب والقصاص والانتقام، كما كان في مجتمع الدولة الرومانية القديم “للانتقام من فاعلي الشر” [1].

ويحدد الباحث في كتابه الذي أشرنا إليه التأديبات الكنسية في الكتاب المقدس والتقليد والقانون الكنسي.

أهم سمات طقس التائبين وقانون التأديبات الكنسية في كنيستنا القبطية:

ـ التأديب الكنسي علاج وشفاءٌ من المرض الذي يكمن في نفس التائب.
ـ لابد أن يكون لقانون التوبة زمن محدد؛ هو “زمان التوبة”.
ـ ثم أن ليس لكل الخطايا حكم واحد. كما تختلف أعمال التوبة المفروضة حسب أنواع الخطايا، كما يشرح ذلك الفصل الثامن من ال كُلََّه:

ولا تحكموا حكمًا واحدًا على الخطايا كلها بل كقدر كل خطية، بفهم عظيم تفحصون كل واحدة من الخطايا.

فبعضٌ تقمعهم بالتهديدات فقط، وبعضٌ تحكم بأن يعطوا رحمة للمساكين، وأقوام تحدد لهم أصوامًا، وآخرون تُخرجهم من البيعة إلى مدة معلومة.

(الدسقولية، فصل ٦٨، ٧٠)

ونجد أمثلة لهذه الممارسات في الرسالة القانونية للقديس غريغوريوس صانع العجائب [2].

ويورد الباحث استثناء جدير بالتوقف عنده: إنه استثناء الذين يشرفون على الموت وهم تحت التأديب الكنسي. فإنه كانت تجرى مصالحتهم متضمنة نوالهم سر ال، كما أمر بذلك صراحة القانون 13 من المسكوني (سنة 325)، كاستثناء من حَرفية القانون يتَّصف بالرحمة والمحبة (التي لا تغيب أبدًا في كل معاملات خدام الكنيسة) في هذا الظرف الاستثنائي:

فيمَا يختص بالمحتضرين، فالقانون القديم لا يزال معمولًا به، أعنى إذا أشرف شخص على الموت فيجب ألا يحرم الزاد الأخير الذي لا غنى عنه. أما إذا عادت إليه صحته وكان قد مُنح الشركة حين قطع الأمل من حياته، فليقف مع صف المشتركين في الصلوات لا غير. وعلى الإجمال، إذا احتضر شخص وطلب أن يُناوَل القربان فليمنحه الأسقف سؤاله بعد الفحص. [3]، [4]

(مجمع نيقية، القانون ١٣)

وفي الوثيقة الإيمانية الأولى (الكتاب المقدس) يؤسس ق. بولس في رسالتيه إلى كنيسة كورنثوس منهجًا كنسيًا رائدًا في قضية التأديب الكنسي، فبعدما أصدر قراره لشخص ارتكب واقعة (زنى محارم)، في رسالته الأولى:

 أفأنتم منتفخون، وبالحري لم تنوحوا حتى يرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل؟ فإني أنا كأني غائب بالجسد، ولكن حاضر بالروح، قد حكمت كأني حاضر في الذي فعل هذا، هكذا: باسم ربنا يسوع المسيح -إذ أنتم وروحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح- أن يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد، لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع.

(رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس ٥: ٢-٥)

ولأن الكنيسة لا تقر العقوبة المفتوحة، وهي تعاقب بحنو الأبوة، فقد بادر ق. بولس في رسالته الثانية بطلب العفو عن هذا المخطئ، لأنه أي القديس بولس يعيش في حالة حزن من أجله بكل مشاعر الأبوة فيقول لهم:

لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة، لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولا سيما من نحوكم. ولكن إن كان أحد قد أحزن، فإنه لم يحزني، بل أحزن جميعكم بعض الحزن لكي لا أثقل. مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من الأكثرين، حتى تكونوا -بالعكس- تسامحونه بالحري وتعزونه، لئلا يبتلع مثل هذا من الحزن المفرط. لذلك أطلب أن تمكنوا له المحبة. لأني لهذا كتبت لكي أعرف تزكيتكم، هل أنتم طائعون في كل شيء؟ الذي تسامحونه بشيء فأنا أيضا. لأني أنا ما سامحت به – إن كنت قد سامحت بشيء – فمن أجلكم بحضرة المسيح، لئلا يطمع فينا ، لأننا لا نجهل أفكاره.

(رسالة بولس الثانية إلى كورنثوس ٢: ٤-١١)

كانت إشكالية “المحاكمات الكنسية” تؤرق أسقف التعليم، ال، حتى أنه أفرد لها افتتاحية (يناير وفبراير 1965)، أي المقال الأول للعدد الأول من المجلة الجديدة، وهي بمثابة بحث كتابي آبائي موثق يستعرض فيه أهمية المحاكمات الكنسية وضوابطها، ثم يختتمه بسؤال وإجابته؛ كان السـؤال: ماذا يفعل الأسقف بالخاطئ بعد معاقبته؟

وكانت الإجابة: يقول الآباء الرسل في الباب الرابع من الدسقولية (أحد أعمدة الكتب القانونية الكنسية التراثية) [الذي مال يا أسقف أعدله]، لا تدعه خارجًا بل اقبله.. الذي ضل، اسأل عنه، بل يصل حنان الآباء الرسل إلى حد قولهم فليحمل الأسقف على نفسه إثم ذاك الذي أخطأ، ويصيره خاصة له. ويقول للمذنب ارجَع أنت. وأنا أقبل الموت عنك، مثل سيدي المسيح.

وفي تاريخ الكنيسة المعاصر نجد في نهج قداسة ال تطبيقًا عمليًا حياتيًا لمفهوم التأديبات الكنسية، باحتضانه للمشكو في حقه خاصة عندما يكون من الآباء الكهنة، ودعوته لملازمته في قداساته اليومية، إيمانًا منه بقدرة المذبح على تقويم المعوج وضبط حياته، وعودته خادمًا نقيًا غسلته صلوات ال وما اكتسبه من ملاصقته للبابا الحكيم.

ومن ثم فان محاكمة ـ تأديب ـ من يُحاكَم، تبدأ بفحص وقائع الاتهام بمعرفة لجنة تحقيق داخل الإيبارشية، وتستدعي المتهم، وتناقشه فيما هو منسوب إليه، وتستمع لدفوعه، وشهوده، فإن تكون عندها رأي، تصدر قرارها، فإن كان القرار بالإدانة، وتقرر لها عقوبة، يحق للمدان استئناف القرار أمام جهة كنسية أعلى حسب ترتيب الدسقولية التي تعطيه هذا الحق، بنصوص واضحة، بأن يلجأ إلى ال أو إلى البابا. وفي كل الأحوال تكون الجلسات علنية، ما لم يطلب المحال للمحاكمة غير ذلك، أو إذا تعلق الأمر بأمور تمس أشخاص آخرين، وهو أمر تقديري يترك لهيئة المحكمة.

ولعل آباء مجمع الكنيسة برئاسة قداسة البابا يضعون نقطة في نهاية سطر مؤرق للكنيسة، بتكليف لجنة مجمعية قانونية ينضم إليها رجال قانون من القضاة والمستشارين والفقهاء القانونيين من أبناء الكنيسة لوضع وصياغة تقنين منظومة القضاء الكنسي وفقًا لما تقول به المراجع الكنسية الكتابية والآبائية، تتضمن من وجهة نظري:

• تحديد وتوثيق ما يحسب خطأ يستوجب المساءلة، وما يقابله من تأديب وفقًا للضوابط الكنسية، “فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، ويراعى في هذا اتساق التأديب مع الخطأ المقابل، وأن يكون التأديب محدد المدة، فلا توجد عقوبة مفتوحة، ويكلف أحد الآباء ـ أو أحد الخدام ـ المختبرين الأتقياء، بمتابعته وافتقاده وإرشاده خلال فترة التأديب، ترتيبًا على هدف الكنيسة “التوبة والخلاص”.

• تحديد الهيكل القضائي الكنسي ودرجاته، المواصفات والصلاحيات، على غرار ما استنه موسى النبي في تدبير شعبه.

• تحديد الإجراءات التي تنظم الادعاء، والإحالة، ونظام الجلسات، وحق المُحال في الدفاع عن نفسه بنفسه، وحقه في الاستعانة بمن يدافع عنه من المحامين من أبناء الكنيسة، يلتزم بها كل الآباء الأساقفة، وتعلن على الكافة.

• أن تضم هيئة المحكمة، ومدنيين، من رجال القانون، محامون وقضاة وفقهاء قانون، وألا ينفرد الأب الأسقف بالقرار، التزامًا بما انتهت إليه، وله أن يستأنف الحكم أمام هيئة قضائية كنسية أعلى، استئناسًا بالنظم المتبعة في المحاكم العامة، لضمان تحقيق العدالة بأقصى ما يمكن، وضمان عدم التعسف في استخدام السلطة، وحلول الموضوعية محل الشخصنة.

• يكون الحكم نهائيًا وباتًا بعد استنفاذ درجات التقاضي واعتماده من قداسة البابا.

سلامًا ونموًا ونجاحًا الكنيسة في رسالتها من وراء القصد.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. رسالة بطرس اﻷولى 2: 14 [🡁]
  2. رسالة رقم 11، قوانين القديس باسيليوس رقم 4 و56 و82 [🡁]
  3. مجمع نيقية، القانون 13 [🡁]
  4. مجموعة قوانين القديس باسيليوس، القانون رقم 73 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 3 حسب تقييمات 2 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ المحاكمات الكنسية[الجزء السابق] 🠼 المحاكمات الكنسية.. عود على بدء
كمال زاخر موسى
كاتب ومفكر قبطي في التيار ال المصري   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎