المقال رقم 19 من 19 في سلسلة الخلاص بين الشرق والغرب

نواصل الكتابة عن تعليم القديس أثناسيوس حول تدبير الخلاص، ويتضح أنه لا وجود لنظرية في تعليم القديس أثناسيوس الرسولي، لاهوتيّ التألّه وّ في المسيح.

يعتقد البعض أنه عندما يجدون كلمات مثل: (بدلًا عنا، عوضًا عنا، نيابةً عنا، فدية، ثمن، كفارة، دَّين، ذبيحة لعنة، حكم)، وغيرها من المصطلحات القانونية، إنه يوجد بذلك تعليم بدلية عقابية عند ق. أثناسيوس، وهذا ضرب من الوهم والخيال. فتعاليم ق. أثناسيوس تدور حول تدبير الخلاص، وتأليه الطبيعة البشرية عن طريق اتحادها بأقنوم الكلمة في المسيح يسوع ربنا، وتبتعد كل البعد عن نظرية الترضية، أو مصالحة العدل مع الرحمة على الصليب، أو إيفاء العدل الإلهيّ، أو ترضية كرامة الله المهدرة بسبب خطية البشرية غير المحدودة، وغيرها من الأفكار في لاهوت العصر الوسيط التي انتشرت في أوروبا لقرونٍ عديدةٍ، وسبَّبت العديد من المجادلات والمجامع لعلاج المشاكل الناجمة عن هذه التعاليم الخطيرة البعيدة كل البعد عن التعليم الآبائي الشرقي الأرثوذكسي، الذي يُمثِّله في هذا البحث، ق. أثناسيوس العظيم، مُعلِّم المسكونة.

إعادة خلق الطبيعة البشرية في المسيح

ويُفسِّر ق. أثناسيوس كيفية إبطال سلطان الخطية على الجسد من خلال إعادة خلقة الطبيعة البشرية في المسيح، فيُقال عنه أنه مخلوق رغم أننا نحن المخلوقون فيه من جديد باتحادنا بجسده، وهكذا يطرد المسيح الخطية من الجسد بسكناه فيه، وليس بتسديد عقوبة الخطية عن الجنس البشري أمام الله الآب، بل بسكناه في الجسد من أجل تقديسه وتطهيره من كل خطية كالتالي: [1]

وبحسب فكر أولئك يُعتبر جوهر الكلمة مخلوقًا بسبب قوله 'الرب خلقني‘، بالتالي، لكونه مخلوقًا، فهو لم يُخلَق من أجلنا، وإنْ لم يكن قد خُلِقَ من أجلنا، فنحن لم نُخلَق به، وإن لم نُخلَق به، فلن يكون هو لنا في داخلنا، بل سيكون من خارجنا، كما لو كنا نقبل منه التعليم مثلما نقبله من مُعلِّمٍ. ولو كان الأمر كذلك معنا، لما فقدت الخطية سلطانها على الجسد، بل لظلت مُلتصِقةً به وليست بعيدةً عنه. غير أن الرسول يعارض تعليم هؤلاء بإعلانه لأهل أفسس قبل ما سبق أن اقتبسنا بقليلٍ قائلًا: لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع. فإن كنا قد خُلِقَنا في المسيح، فلا يكون هو الذي خلقنا، بل نحن الذين خُلِقَنا بواسطته. لذا فالقول 'خلق‘ هو من أجلنا نحن وبسبب احتياجنا. فإن الكلمة رغم أنه خالق، احتمل أيضًا لقب المخلوقين. ولم يكن هذا لقبه الخاص. إذ إنه هو الكلمة، ولكن اللقب 'خلق‘ هو خاص بنا نحن المخلوقين بواسطته. وأيضًا كما أن الآب كائن دائمًا، فإن كلمته كائن دائمًا أيضًا، ولأنه كائن دائمًا، فهو يقول: وكنتُ أنا موضع بهجته، فرحًا في حضرته كل يوم [2]، وأيضًا أنا في الآب والآب فيَّ [3]. هكذا فإنه حينما صار إنسانًا تابعًا لجنسنا البشري مثلنا، قال: 'الرب خلقني‘ لكي يستطيع أن يطرد الخطية بعيدًا عن الجسد بسُكناه فيه، ولكي نحصل نحن على فكر حر.

(أثناسيوس، المقالات الثلاثة )

ويُؤكِّد ق. أثناسيوس على أن المسيح هو أخونا وبكرنا؛ لأنه لبس جسدًا مشابهًا لأجسادنا، وكان أول جسد خلصه وحرَّره الكلمة هو جسده، وهكذا إذ قد صرنا مُتَّحِدين بجسد الكلمة، خلُصنا على مثال جسده، وصار بهذا الجسد قائدنا إلى السماء، نحن الذين قد متنا قبل موت الكلمة في الجسد بعد مخالفة ، فيدحض ق. أثناسيوس بذلك أي معنى لنظرية البديل العقابيّ على الصليب، طالما أن جسده قد تم تخليصه وتحريره باتحاده بالكلمة نفسه في لحظة التجسُّد كالتالي: [4]

ولهذا من الصواب أن يُدعَى أيضًا 'أخانا‘ و'بكرنا‘. لأنه بما أن البشر قد هلكوا بسبب مخالفة آدم، فإن جسده كان أول ما تمَّ تخليصه وتحريره، إذ أن هذا الجسد هو جسد الكلمة نفسه. وهكذا إذ قد صرنا متحدين بجسده، قد خلُصنا على مثال جسده، وبهذا الجسد صار الرب قائدنا إلى ملكوت السماوات وإلى أبيه؛ لأنه يقول: أنا هو الطريق [5]. وأنا هو الباب [6]. ويجب على الجميع 'أن يدخلوا بي‘. من أجل ذلك، يُدعَى 'بكر من بين الأموات‘، لا لأنه مات أولًا -إذ أننا قد متنا قبله- بل لأنه قد أخذ على عاتقه أن يموت لأجلنا، وقد أبطل هذا الموت، فإنه هو الأول الذي قام كإنسان، إذ قد أقام جسد لأجلنا. وتبعًا لذلك، حيث إن الجسد قد اُقِيم، هكذا نحن أيضًا ننال القيامة من بين الأموات منه وبسببه.

(أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الين)

الاتحاد بالآب في المسيح

يرى ق. أثناسيوس أن المسيح يُكمِّل في الروح القدس كل معرفتنا عن الله، ويُتمِّم فيه كمالنا الخاص بنا، ويُوحِّدنا بالروح القدس مع شخصه ومن خلاله مع الآب، أي مع ال كالتالي: [7]

ولكي يُكمِّل فيه كل معرفتنا عن الله [أي كل التعليم عن الله]، ويُتمِّم كمالنا الخاص، الذي به وحَّدنا مع شخصه ومن خلاله مع الآب.

(أثناسيوس، الرسائل عن الروح القدس)

يُوضِّح ق. أثناسيوس أن قداستنا مُستمدة من الآب بالابن في الروح القدس، وذلك لأن الروح القدس هو القوة الحيوية والعطية التي تُقدِّسنا ونستنير بها كالتالي: [8]

وأن نُفكِّر بطريقةٍ مشروعةٍ، وأن نُؤمِن بقداسةٍ واحدةٍ مُستمَدة من الآب بالابن في الروح القدس. لأنه كما أن الابن هو وليدٌ وحيدٌ، هكذا أيضًا الروح إذ هو مُعطَى ومُرسَل من الابن، هو نفسه واحد وليس كثيرين، وليس واحدًا من كثيرين، بل هو نفسه وحيد. إذًا، كما أن الابن -الكلمة الحيّ- هو واحدٌ، هكذا فإن القوة الحيوية والعطية التي بها يُقدِّس ويضيء، ينبغي أن تكون واحدة وكاملة وتامة، وهي التي يُقال عنها إنها تنبثق من الآب، لأنها من الكلمة -الذي يُعترَف أنه من الآب- وهي التي تشرق وتُرسَل وتُعطَى.

(أثناسيوس، الرسائل عن الروح القدس)

المبادلة الخلاصية الشفائية وليس العقابية

ويرى ق. أثناسيوس أن المسيح كطبيب ومخلص بعدما خلق الإنسان، واستدعت الضرورة علاج ما هو موجود، عندئذٍ جاء المسيح الطبيب الشافي لكي يشفي الخلائق الموجودة مُستخدِمًا جسده كأداةٍ بشريةٍ في إتمام ذلك، أي إتمام المبادلة الخلاصية وليس العقابية للموت بالحياة وللفساد بعدم الفساد عن طريق اتحاده بالكلمة الذي هو الحياة في ذاته كالتالي: [9]

ونجيب على اعتراضهم هذا بجوابٍ معقولٍ قائلين إنه في البَدْء لم يكن شيء موجودًا بالمرة. فكل ما كان مطلوبًا هو مجرد 'نطق‘ مع إرادة إلهية لإتمام الخلق. ولكن بعد أن خُلِقَ الإنسان [وصار موجودًا]، واستدعت الضرورة علاج ما هو موجود، وليس ما هو غير موجود، عندئذٍ كان من الطبيعي أن يظهر الطبيب والمخلِّص فيما هو موجود لكي يشفي الخلائق الموجودة. لهذا السبب قد صار إنسانًا، واستخدم جسده أداةً بشريةً […] ثم ينبغي أن يُعرَف هذا أيضًا، أن الفساد الذي جرى لم يكن خارج الجسد، بل كان ملتصقًا به، وكان الأمر يحتاج إلى أن تلتصق به الحياة بدلاً من الفساد حتى كما صار الموت في الجسد، تصير الحياة في داخل الجسد أيضًا.

(أثناسيوس، )

يُؤكِّد ق. أثناسيوس على البعد الشفائيّ للخلاص في موضع آخر، حيث يتحدَّث عن سيادة الموت على الجنس البشري من آدم إلى موسى، ولعنة الأرض، وفتح الجحيم، وغلق الفردوس، وإهانة السماء، لذلك دفع الله محب البشر الإنسان المصنوع على صورته إلى الكلمة نفسه، لكي يعالج الإنسان كطبيب من لدغة الحية، وكان ذلك باتخاذه جسدًا من أجل استعادة الإنسان بالكامل كالتالي: [10]

لأنه حينما أخطأ الإنسان وسقط، وصارت كل الأشياء بسقطته في ارتباكٍ: حين ساد الموت من آدم إلى موسى [11]، ولُعِنَت الأرض، وفُتِحَ الجحيم، وأُغلِقَ الفردوس، وأُهِينت السماء، وأخيرًا، فسد الإنسان وتوحش [12]، وكان إبليس يسخر منا؛ فحينئذ قال الله مُحِب البشر الذي لم يُرد هلاك الإنسان المصنوع حسب الصورة: مَن أُرسِل؟ ومَن يذهب؟ [13]. ولكن بعدئذٍ ذاك القائل: اذهب أنت [14]، هو الذي دفع الإنسان إليه، لكي يستطيع الكلمة نفسه أن يصير جسدًا، وهكذا استعاد هذا الجسد بالكامل من خلال اتخاذ الجسد. لقد كان طبيبًا بالنسبة للإنسان الذي قد دُفِعَ إليه ليعالج لدغة الحية، وحياةً ليرفع مَن كان مائتًا، ونورًا ليضيء الظلمة؛ ولأنه كان الكلمة ليجدد الطبيعة العاقلة. لقد دُفِعت إليه كل الأشياء منذ ذلك الحين، وعندما صار إنسانًا، تمَّ ضبط وتكميل كل الأشياء في الحال. وهكذا نالت الأرض بركةً بدلاً من اللعنة، وفُتِحَ الفردوس للص، وانحسر الجحيم، وتفتحت القبور، وأُقِيم الموتى، وفُتِحَت أبواب السماء في انتظار ذلك الآتي من أدوم [15].

(Athanasius, Select Works and Letters)

ويُشِير ق. أثناسيوس إلى شفاء ضعفات وأوجاع الجسد البشريّ من خلال حمل الكلمة لضعفات الجسد، لأنه اتَّخذ جسدًا وصارت ضعفات الجسد خاصة بجسده، وخدم الجسد أعمال اللاهوت المتَّحِد به، بالتالي، يتمُّ افتدائنا نحن البشر من أوجاعنا ونمتلئ ببرّ الكلمة كالتالي: [16]

والكلمة حمل ضعفات الجسد، كما لو كانت له، لأن الجسد كان جسده، والجسد خدم أعمال اللاهوت، لأن اللاهوت كان في الجسد، ولأن الجسد كان جسد الله. وحسنًا قال النبي: حملها [17]، ولم يقل إنه 'شفى ضعفاتنا‘، لئلا تكون هذه الضعفات خارج جسده، وهو يشفيها فقط -كما كان يفعل دائمًا- فيترك البشر بذلك خاضعين للموت، ولكنه حمل ضعفاتنا، وحمل هو نفسه خطايانا، لكي يتضح أنه قد صار إنسانًا لأجلنا، وأن الجسد الذي حمل الضعفات هو جسده الخاص، وبينما هو نفسه لم يصبه ضرر أبدًا، حمل خطايانا في جسده على الخشبة، كما قال بطرس [18]، فإننا نحن البشر قد افتُدِينا من أوجاعنا وامتلأنا ببر الكلمة.

(أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين)

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين، ترجمة: أ. و د. ، ، 2017، 2: 20: 56، ص 241، 242. [🡁]
  2. سفر الأمثال 30: 8 [🡁]
  3. إنجيل يوحنا 10: 14 [🡁]
  4. أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين، ترجمة: أ. صموئيل كامل و د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017، 2: 21: 61، ص 249. [🡁]
  5. إنجيل يوحنا 14: 6 [🡁]
  6. إنجيل يوحنا 10: 7 [🡁]
  7. أثناسيوس، الرسائل عن الروح القدس (الرسالة الأولى إلى سرابيون الأسقف)، ترجمة: د. و د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2018، 1: 6، ص 44، 45. [🡁]
  8. أثناسيوس، الرسائل عن الروح القدس (الرسالة الأولى إلى سرابيون الأسقف)، ترجمة: د. موريس تاوضروس و د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2018، 1: 20، ص 78، 79. [🡁]
  9. أثناسيوس، تجسد الكلمة، ترجمة: د. فلتس، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2003، 44: 2، 4، ص 128، 129. [🡁]
  10. Athanasius, Select Works and Letters (on Luke 10: 22), NPNF, Ser-II, Vol. IV, Trans. by A. T. Robertson, Edit. by & H. Wace, New York: Christian Literature Co., 1892, p. 87-90. [🡁]
  11. رسالة بولس إلى رومية 5: 14 [🡁]
  12. مزمور 49: 12 [🡁]
  13. سفر إشعياء 6: 8 [🡁]
  14. سفر إشعياء 6: 9 [🡁]
  15. مزمور 24: 7؛ سفر إشعياء 63: 1 [🡁]
  16. أثناسيوس، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين، ترجمة: أ. صموئيل كامل و د. نصحي عبد الشهيد، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017، 3: 26: 31، ص 333، 334. [🡁]
  17. سفر إشعياء 53: 4 [🡁]
  18. رسالة بطرس اﻷولى 2: 24 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

‎ ‎ جزء من سلسلة: ‎ ‎ الخلاص بين الشرق والغرب[الجزء السابق] 🠼 تدبير الخلاص في تعليم أثناسيوس الرسولي [٤]
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في    [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس وس أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎