ما المقصود بـ(الأخلاق)؟
الأخلاق فلسفة وهي أيضًا علم، وبالنظر إلى موضوع البحث هذا يتعيَّن تحديد المصطلحات التي تسهم في التعريف بالمقصود (بالأخلاق) وتأتي أهمية تعريف مفردات موضوع القيم الأخلاقية وطبيعتها في بحثنا حيث توفِّر للباحثين المرونة المطلوبة لتدعيم قيم أخلاقية تنهض بالمشروع التنموي دون أن تمس القاعدة الأخلاقية التي تتميز بالثبات (نسبيًا)، ودون أن تقع في التركيز على مظهر سلوكي لا تسانده قيم.
تعريف الأخلاق، القيم، السلوك
توجد مفردات تتعلق بموضوع القيم الأخلاقية لابد من إيضاحها بدايةً حتى يسهل الوصول إلى نتائج تطبيقية وعملية مقصودة:
1- Ethos وهي من الكلمات التي يصعب ترجمتها والمقصود منها الشيء الثابت أو الروح المميزِّة للثقافة أو الحِقبة أو المجتمع كما يتجلّى في معتقداته وتطلُّعاته. ويحدِّد الطبيعة الأخلاقية كباعث على الأخلاق، ولكل شعب قواعد قيمية خُلُقية تسود في حِقبة معيَّنة من الزمن:
• فهي عند بوذا تستند إلى الخلاص عن طريق التحرُّر من الشهوات.
• وعند الفلسفة اليونانية هي الحِكمة عن طريق الانسجام.
• وفي الحضارة الرومانية هي فكرة النظام والقانون وصرامة الخلق وقوة العزيمة.
• وفي الإسلام هي الإلزام الخلقي إذ ترتبط القيم الأخلاقية في الفكر الإسلامي بمفهوم الأمر والنهي والثواب والعقاب وهي أمور تصدر من سلطة عليا (الله) فهو يأمر وينهي ويثيب ويعاقب وهو مصدر الإلزام الخلقي، فإذا لم يعد هناك أمر إلهي فلن يكون هناك مسؤولية، وإذا انعدمت المسؤولية فلا يمكن أن تسود العدالة وهنا تحدث الفوضى [1]
• وفي المسيحية يرتكز الـ Ethos على مركزية الحضور الإلهي في التاريخ الإنساني، أي على نفس العهد الذي هو من الأزل وإلى الأبد، (أنا أكون لكم إلهًا وأنتم تكونون لي شعبًا) وأيضا على أسس المحبة لله وللقريب. وعمليًا تأخذ الأخلاق في المسيحية بُعدًا رأسيًا (مع الله) وبُعدًا أفقيًا (مع القريب).
2- الأخلاق ethics أي الواجب والنية الأخلاقية، فالأخلاق: مجموعة من القواعد التي تحدد السلوك الإنساني وتنظمه. (الحق، الخير، الجمال. ويضيف الفلاسفة القدامى العدل والحكمة).
الأخلاق في تعريف آخر: تدرس شروط تناسق السلوك مع المثل الأعلى.
3-القِيَم بمعناها الواسع: القيمة بمعناها الواسع (اجتماعية أو أخلاقية أو نفسية أو جمالية) هي ما يجعل أي شيء جديرًا بأن يُطلب أو يتحقَّق. فالإنسان (والجماعة) هو الذي يحمل القيمة في ذهنه ويحمـِّلها على ما يريد، (الأشياء حيادية في ذاتها سواء ضارة أو خيرة). فالأخذ بالثأر قيمة لدى الجماعة التي ترى أنه يحقق شيئَا ما، واللجوء إلى الأحجبة والسحر له قيمة عند من يعتقد فيه.
أهمية القِيَم
يشعر أعضاء الجماعة بارتباط شديد بالقِيَم، فهي تتيح لهم مستوى للحكم على الأفعال والمجتمع يحتاج إلى قيِم يحتكم لها، وهذه القِيَم تعطي للشخص والمجتمع قوامه. ومنها تتكون منظومة القيم أو سُلم القيم.
وتتميز القيم بخصائص:
1-عنصر التقدير الشخصي عامل مشترك بين خصائص القِيَم، فالقيمة مسألة اعتقاد، حتى إن الشيء الذي له منفعة زائفة له نفس قيمة الشيء كما لوكان حقيقيًا ويحقِّق شيئًا يهدف إليه الشخص في حياته إلى أن يتبيَّن زَيف القيمة.
2-نسبية وليست مُطلَقة وشخصية تتوقف على الاعتقاد.
3- القِيَم اختيار واعٍ تقوم به الجماعة وتضع منظومتها القيمية التي تناسب ظروف كل جماعة، ومن هنا تكون القيم الأخلاقية مجالًا مفتوحًا أمام أخلاقيات التنمية.
• ومن هنا يشير علماء الاجتماع إلى أهمية الوصول إلى منظومة قيم جديدة تُضاف إلى مجموعة من القيم أسموها (القيم التقليدية) مثل الأمانة، حب الوالدين، التعاون، والمتوارثة جيل بعد جيل، فقد أشار دكتور محمود عطا حسين إلى سُلَّم قيمي يشمل: “رفض الظلم- المساواة- احترام الآخرين- نبذ التفرقة العنصرية- احترام العمل- التطوع- مكانة المرأة- صيانة البيئة- التفاؤل- العقلانية- تعليم المرأة- تقدير الذات- تقدير العلم- نبذ العنف- إدارة الوقت- الطموح والإنجاز- الانضباط- تحقيق الذات- الصالح العام- ترشيد الاستهلاك- الإبداع- الانفتاح على الثقافات- النظام والترتيب- التخطيط- الحرية- الاعتراف بالخطأ” [2]
4-السلوك: Behavior نابع من ضغط خارجي لتفادي الضرر أو استجلاب الرضا. هو مجرد تصرُّف لا يحمل معنى قيمي، فقد التزم بإشارات المرور تفاديًا لإيقاع مخالفات مرورية وهنا أحاول تفادي الضرر، وقد التزم بها نتيجة احترامي لقيم القانون والنظام، وهنا تُضاف القيمة إلى التصرف.
يبحث فاخر عقل رئيس قسم علم النفس في جامعة دمشق في أثر التركيز على السلوك الخالي من مضمون قيمة أخلاقية ويعود في كتابه (التربية قديمًا وحديثًا) إلى القرن13، ويرى أن الدين في المدة الفاصلة بين القرن السادس والثالث عشر كانت تطغى عليه النظرة الترويضية. فبتشجيع من السلطات الرومانية وجهت المنظومة الأخلاقية إلى التركيز على السلوك للاستفادة من الانضباط وإرساء القواعد القانونية.
ويرى أن الدين عندما يوجه العناية إلى السلوك أكثر من العقل يحل الترويض الأخلاقي محل الفلسفة الأخلاقية وتطغى عليه النظرة الترويضية. أما عندما يعمل الدين على غرس القيم الواعي بالمتغيرات وليس مجرد إدراج قائمة بالقيم والأخلاق الحميدة ستنهض الجماعة مرة أخرى.
وقد ركَّز دكتور محمد سعيد العشماوي في كتابه ديوان الأخلاق
على دور الضمير:
▪ -الضمير: نظام أخلاقي صائب تناغم بين التصرفات الإنسانية والحقيقة الإلهية وإلا سيكون الوضع الأخلاقي كالآتي:
• سلوكيات مادية، عادات اجتماعية، تقاليد شعبية.
وهو يرى أن الضمير هو الأساس الكوني للأخلاق، فالضمير لا يحركه الخوف من العقاب.
والضمير: تناسق مع المجتمع، تصادق مع الإنسانية، تعاون مع الكون.
ويتحقق الضمير من خلال إيمان واعٍ بصير ومعرفة كونية صحيحة وممارسات إنسانية صادقة وعمل بحزم، ولابد له من وعي وإرادة وجهد ورهن بازدياد المعلومات واتساع المعارف ووفرة الأفكار والتحصيل والاطلاع وتفتح الإحساس وتنبُّه العقل تزايد الوعي بحيث تقل مجاهل الحياة والعمل بما عُلِّم ليحصل ويمد وينشر عبر الزمان والمكان.
يضع العشماوي تعريفًا لكل من:
▪ الضمير الكوني: تناغم مع كل أشكال الحياة مع بقية الخلائق.
▪ الضمير الفردي: عندما يقتصر الإنسان على ذاته: يبذل جهدًا ضائعًا لا أصل له ولا امتداد، لا يصبح قفزة للأمام وانطلاقة.
▪ ويرى أن السيد المسيح قصد الإنسان نفسه وأهتم بجوهره وأكد على الضمير. [3]
▪ فوفقا للنهج الكوني على المؤمن أن يضع المسيح في قلبه وأن يكون الله في الضمير.
فالخبرة الدينية: لها وجهان؛ الإنسان نفسه والمجتمع والكون وهذا لا يمكن أن يصح بشكل عفوي بل تتحقق من خلال إيمان واعي بصير. [4].
تأثير الدين على القيمة الأخلاقية
وعودة إلى أخوة الرب والصلة بسُلّم أو منظومة القيم الأخلاقية، وفي قمتها تحقيق الذات والقيمة الذاتية.. فبالنظر إلى هذه المعاني في العلوم الإنسانية هي تمثِّل قِمّة رقي الإنسان عندما يطلب ويتطلع إلى دور يخدم فيه البشرية بعد أن يضمن سداد حاجاته الأساسية، وبدونه لا يشعر بإنسانيته هو شخصيًا.
وبينما تنادي القيم الدينية بإنكار الذات يختلط الأمر على المتعلِّمين ويُفهم أن تحقيق الذات والقيمة الذاتية أمر مرفوض دينيًا مما يزيد إشكالية قيمة الإنسان في نظر نفسه.
تطور القيم الأخلاقية في المسيحية
خصص اللاهوتي هلموت ريتشارد نيبور (H. Richard Niebuhr) كتابًا بعنوان Christian Ethics [أخلاق مسيحية
] لتتبع الخط الأخلاقي عبر التاريخ المسيحي وتأثره بالظروف المحيطة بالجماعة، للوصول إلى إيمان له معنى وتأثير أخلاقي.
بدايةُ يرى أن النظرة المسيحية للأخلاق تنبع من مصدر يشترك فيه الكل وهو: الإيمان بطبيعة الله كحقيقة غائية (أي كغاية وليست وسيلة لتحقيق غرض آخر) وما يتبع ذلك من تجاوب البشر مع هذا الإيمان، بالتالي فإن الحياة المسيحية هي التجاوب بمحبة مطيعة لله وتحقيق إرادته وهذه هي الوصية الأولى والعظمى، وإرادته هي محبة القريب مثلما أحب الله الإنسان. ولذلك فإن النظريات الأخلاقية جميعها من المفروض أن تترابط رأسيًا مع الله وأفقيًا مع القريب.
(الاكتفاء بمثلين أقرب للحِقبة الحديثة من كتاب نيبور)
ظهور الكنائس الحرة والفرق الاعتزالية وجماعات التقوى.
ظهور هذه الجماعات في وقت كانت لا تضع فيه الكنائس الرسمية الكاثوليكية والبروتستانتية تنبيرًا كافيًا على ثورية تعاليم يسوع أي التغيير الجذري في الحياة، الذي يحدثه المسيح لحياة الإنسان والتعاليم الأخلاقية النقية والفريدة في نوعها.
لم تهتم هذه الفرق بتغيير المجتمع إلا من خلال تغيير أخلاقيات الأفراد والاهتمام بالسلوك الفردي والنقاوة الشخصية وبذلوا جهدًا كبيرًا في النقد والتوبيخ والتأديب والحث العاطفي، وكان التركيز الأكبر على السلوكيات، ولم تكن القيم الأخلاقية المرتبطة بالجماعة والدولة أو المنظمات الاجتماعية تجد اهتمامًا بل إنهم نادوا بأن الكنيسة يجب ألا تختلط بالعالم، فلكي ينجحوا في تطبيق نظامهم الأخلاقي الصارم الذي وضعوا قواعده كان عليهم أن ينفصلوا عن المجتمع في جماعات انعزالية.
الإنجيل الاجتماعي
أو حركة أخلاقيات ملكوت الله التي ظهرت في أمريكا في القرن الثامن عشر وتواصلت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ووصلت لأعلى تأثير لها في الرُبع الأول من القرن العشرين، استند هؤلاء اللاهوتيون على فكرة المصالحة التي أقامها الله مع البشر، وعلى أساسها أقام ملكوته– ملكوت الله على الأرض، ورأوا أن الخلاص والغفران لا يعالجان فقط الضعف البشري ولكن يمنحان القوة في ملكوت الله الذي يتميز بإقامة الحب والبر. ورأوا المؤسسات الاجتماعية- والاقتصاد- في أشد الحاجة للفداء المسيحي وأن التصنيع الرأسمالي الأمريكي تحت سيطرة إله المال. ثم أن الإيمان يُحيي رؤية مستقبلية نبوية والإيمان يرى الله العامل في العالم وأن الفداء ليس فقط لمعالجة ضعف اللحم والدم ولكن لقوة المبادئ وعوامل القوة، فإن لم يكن للكنيسة القوة التي بها تحيا الملكوت هنا والآن فإن الكنيسة هي مجرد مؤسسة مثلها مثل أي مؤسسة.
يضيف نيبور: إنه ما زال هناك نقاش يدور بين المسيحيين حول المشكلات والقضايا فليست كل الإجابات موجودة فيمًا تم كتابته، إلا أن طلب الإصلاح الحقيقي يقتضي الانطلاق من العلاقة الرأسية لتفعيلها في العلاقة الأفقية أي أنه وفي ضوء الحق الإلهي نتعامل مع القضايا القائمة.