بين الحين والآخر، يثير أحد مدعي حماية الإيمان موضوعًا جدليًا، ويطرحه من منطلق امتلاك الحقيقة الوحيدة المطلقة. مع أن الأمانة تحتم، والدراسة الأكاديمية أيضًا، الإشارة إلى النظريات المختلفة والدراسات الأكاديمية المبرهنة المختلفة.

نكتب هذه السطور لا بدافع الخصومة مع أحد، ولا لهدم الغيرة المقدسة (العاقلة السليمة)، بل لتصحيح الفهم اللاهوتي حول:

– طبيعة الوحي.
– علاقة الكنيسة بالكتاب المقدس.
– وعي كتبة الأسفار المقدسة بما كتبوه.

إذ نؤمن أن الإيمان الحقيقي لا يخشى الأسئلة، ولا يخشى الهجوم بل يجيب عليهم بهدوء وثقة وأن الكنيسة على مر العصور شجعت دراسة الكلمة بعمق وتمييز.

١- هل كتبة الأناجيل كانوا يعلمون أنهم يكتبون “وحيًا مقدسًا”؟
لإجابة هذا السؤال يجب أن نطرح سؤلا قبله ألا وهو: ما هو الوحي في الإيمان الأرثوذكسي؟

ليس وحيًا إملائيًا حرفيًا، بل إعلان الله لذاته في التاريخ من خلال أشخاص عاشوا ظروفهم وثقافاتهم، واستخدمهم الروح القدس ليشهدوا للحق.

– الوحي لا يُلغي شخصية الكاتب ولا ظروفه ولا أسلوبه، بل يعمل من خلالهم.

الروح لم يُلغ شخصية الكاتب، بل جعله يتكلم بما يتفق مع خلاصنا.

(، العظة عن يوحنا)

كل ما كتب في الكتب المقدسة، كتبه الروح القدس بلسان الناس الذين كتبوه.

(أوغسطين ، عن الروح والحرف: ٤٥)

نقطة كمان مهمة وهي أن كتبة الأناجيل كتبوا لغايات رعوية (خدمة جماعة المؤمنين):

– الأناجيل كُتبت لتعليم المؤمنين، وتثبيت الإيمان، ونقل الكرازة، وليس بهدف كتابة “كتاب مقدس” كما نفهم المصطلح اليوم.

– الكنيسة عبر عمل الروح القدس هي من أعطت الأسفار قانونيتها لاستخدامها في ال والعبادة.

الكنيسة وحدها هي التي تميّز ما هو قانوني وما ليس قانونيًا من الأسفار.

(، العظات عن إنجيل لوقا)

نقطة مهمة أيضًا لا يجب إغفالها وهي أن استقرار القانون الكتابي بالشكل الحالي كان عملية تاريخية:

– لم يكن هناك “كتاب مقدس” مكتمل في زمن الرسل.
– استغرق تثبيت الأسفار عقودًا، كما حدث في:
+ مجمع لاودكية (حوالي 363م).
+ رسالة أثناسيوس الـ 39 (367م).
+ مجامع قرطاج وهيبو (أواخر القرن الرابع).

حتى اليوم تختلف قوائم الأسفار بين:

* الكنيسة الأرثوذكسية (73 سفرًا).
* (73 سفرًا).
* الكنيسة الية (66 سفرًا).
* (81 سفرًا).

مقال حامي حمى الإيمان استشهد بآيات على أن بولس والرسل كانوا يعلمون أنهم يكتبون “وحيًا مقدسًا”، وهذا يحتاج إلى تفنيد لبعض الآيات التي أوردها في مقالته:

القديس بولس يعلن أن ما يكتبه هو “إنجيل الله”:

بولس… مُفرزٌ لإنجيل الله.

(رسالة بولس إلى رومية ١: ١)

نعم، بولس الرسول يعتبر بشارته “إنجيل الله”، لكنه لم يقل إن كل ما يكتبه في رسائله هو “كتاب مقدس سيقرأ بعد 2000 سنة كما هو”. بل كان يقصد بعبارة “إنجيل الله” الكرازة بالخلاص والبشارة المُفرحة وليس النص ذاته.

التي نتكلم بها… بما يعلم الروح.

(رسالة بولس اﻷولى إلى كورنثوس ٢: ١٣)

هنا يتكلم ال عن الكرازة والتعليم الذي يعلنه، وليس أنه يكتب كتابًا مقدسًا رسميًا.

لأن كل الكتاب موحى به من الله…

(رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس ٣: ١٦)

وهنا كان القديس بولس الرسول يقصد أسفار العهد القديم، إذ لم يكن هناك عهد جديد مكتوب بعد.

نؤمن أن الروح القدس الذي أوحى بأسفار العهد القديم هو نفسه الذي أوحى بأسفار العهد الجديد، لكن الوعي بذلك لم يكن واضحًا لحظة الكتابة.

لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان…

(رسالة بطرس الثانية ١: ٢١)

هذه الآية عن النبوة في العهد القديم. ولا تعني إلغاء شخصية الكاتب، بل إعلان أن الروح القدس هو الذي يعمل في الأحداث وفي الكتابة. وأيضًا آيات مثل: وإن افتكرتم شيئًا بخلافه، فالله سيعلنه لكم [1]، وتسلمتم كلمة خبرنا… ككلمة الله [2] تتحدث عن قبول التعليم الرسولي ككلمة الله، وهو ما تؤمن به الكنيسة، لكنها لا تعني أن بولس كان يعتبر أن رسائله كلها كتابًا مقدسًا في لحظة كتابتها.

العلاقة بين الكنيسة والكتاب

لولا سلطان ال، لما كنت أؤمن بالإنجيل.

(أوغسطينوس، ضد رسالة ماني، الفصل الخامس)

الكنيسة سبقت الكتاب، والكتاب في حضن الكنيسة. والكنيسة هي التي حددت الأسفار القانونية بروح التمييز، لا أن الأسفار فرضت نفسها بمعزل عن الكنيسة.

عمل الروح القدس المستمر

أما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق.

(إنجيل يوحنا ١٦: ١٣)

الروح القدس ما زال يعمل في الكنيسة، ويرشد المؤمنين، ويعلن لهم كلمة الله، لكن ليس كل ما يقوله أي شخص بإرشاد الروح يُعد “كتابًا مقدسًا”، لأن الكتاب المقدس مرتبط بقرار الكنيسة الجامعة وخبرتها الليتورچية عبر العصور.

في النهاية ولعدم المزايدة نؤمن أن الكتاب المقدس موحى به من الله، ومعصوم في إعلانه الحق للخلاص. لكن كتبة الأسفار لم يكونوا دائمًا واعين بأن ما يكتبونه سيصبح كتابًا مقدسًا كما نفهم اليوم.

سلطان الكنيسة في تحديد القانونية لا ينتقص من سلطان الوحي، بل هو الضمان التاريخي لصحة النص المقدس. وأن طرح هذه الأسئلة لا يهدم سلطان الكتاب، بل يساعد المؤمنين على فهم إيمانهم بعمق ونضج، دون الوقوع في الانغلاق العقلي.

الإيمان الحق لا يخاف الأسئلة بل يواجهها بروح المحبة والحقيقة.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. رسالة بولس إلى فيلبي 3: 15 [🡁]
  2. رسالة بولس اﻷولى إلى تسالونيكي 2: 13 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

مايكل جميل
[ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎