هذا المقال مترجم عن الإنجليزية، بقلم صديقي العزيز صفوت عادل مرزوق، أستاذ العهد القديم بكلية يونيون المشيخية.
تقدم لنا افتتاحية سفر الخروج ملمحًا عن تشكل الاستبداد وكيف يمكن للمؤمنين بالكرامة الإنسانية أن يقاوموه. الاستبداد هو انفراد قمعي بالسلطة بغرض التحكم، مستخدمًا الخوف والوحشية. ومع أن الاستبداد قد يبدو غير قابل للهزيمة، فإن الإيمان بأن الكرامة الإنسانية هي هبة إلهية يلهم طرقًا شجاعة وخلاقة لمقاومته. فسواء من خلال أساليب المواجهة أو التحايل على سياسات الاستبداد، يستخدم الله شركاءه من البشر ليفعّلوا إرادته لتحرير وخلاص الخليقة.
بداية تشكل الاستبداد والمقاومة:
يتشكل الاستبداد في أوقات التغيير والتحول، الوقت الذي يتصدر فيه الخوف المشهد وترتبك فيه رؤية العالم، فتسود لغة “نحن وهم”. الوقت الذي يسيء فيه المستبد (الفرعون في هذه الحالة) استخدام السلطة بغرض سلب الآخر (بنو إسرائيل ههنا) إنسانيته. ومع أن الاستبداد يتغذى على كراهية المختلف والخوف من الغريب، ومع أنه يحاول السيطرة على الناس الذين خلقهم الله أحرارًا ليعيشوا في كرامة، إلا أننا نجد أن العاملين من أجل الصمود والمقاومة والتغيير يبرزون في هذا الوقت. في هذا النص، نقابل القابلات اللاتي كانت مخافة الله في قلوبهن أكبر من الخوف من الآخر كما رسخه الفرعون. نشهد أبوي موسى اللذين استمرا في الحياة بإيمان وحكمة في مواجهة العنف. ونُفاجأ عندما نجد ابنة الفرعون وهي تستخدم قوتها ونفوذها لتعطيل أسس الاستبداد من خلال إظهار تعاطف ودعم مدهشين تجاه المستضعفين.
يسجل كاتب النص ملحوظتين هامتين في سياق هذا الوقت من التغير والتحول. أولهما أن الإسرائيليين استمروا في الكثرة والإثمار [1]. وكأن هذا تتميم لوصية الله لأول إنسانين أثمروا واكثروا واملأوا الأرض
[2]. ومع أن نمو بني إسرائيل كان منسجمًا مع غرض الله للخليقة، فإن الفرعون لم يرى هذا كبركة وإنما كتهديد. والتغيير الثاني الذي يركز عليه الكاتب هو ظهور فرعون جديد لم يكن يعرف يوسف [3].
إن قصة يوسف في سفر التكوين ٣٧ – ٥٠ تقدم نظرة إيجابية للعلاقة بين يوسف وبين الملك المصري، فيوسف هو من أنقذ مصر وكنعان من مجاعة شديدة. لكن في نفس الوقت، هناك ذكرى مساهمة يوسف في استعباد الفرعون للمصريين [4]. من العجيب أنه بعد أن استعبد يوسف المصريين للفرعون، نقرأ في سفر الخروج أن الفرعون يستعبد الإسرائيليين. وأنا أرى أن عبارة لم يعرف يوسف
لا تعني أن الفرعون لم يسمع أبدًا عن يوسف. إن الملك الجديد ينفرد بالسلطة من خلال عمله على محو أي صلاح يمكن “للآخر” (في هذه الحالة بنو إسرائيل) أن يقدمه، ومن خلال تقديمه لهم كمصدر للخطر ينبغي تحجيمه والسيطرة عليه.
ولتأسيس انفراده بالسلطة، يوظف الفرعون بعض الطرق التي يمكن للقارئ أن يستخلصها من كلماته. فأولًا، يؤطر الفرعون للعلاقة بين المصريين والإسرائيليين من خلال علاقة المقابلة بين “نحن” مقابل “هم”. يستخدم الفرعون كلمات تشبه ما استخدمه كاتب النص للكلام عن بركات الإسرائيليين، إلا أن طرح الفرعون يقدم تحورًا مهمًا: لقد صاروا أكثر وأعظم منا!
[5]. وثانيًا، يطرح الفرعون سيناريو حرب مفترضة، نوع من الصراع والتخوين بغرض إثارة مشاعر الخوف لدى مستمعيه [6].
التفرقة، ووصم الآخر كمصدر تهديد، إثارة الخوف من المستقبل كلها معًا تشكل وصفة مثالية يستخدمها المستبد للانفراد بالسلطة ولتسهيل العنف والقمع. إن استئثار الفرعون بالسلطة يجد دعمًا من أولئك الذين اقتنعوا بدعاياته المثيرة للخوف والتشكيك: أولئك الذين انخدعوا فقبلوا الاستماع إلى أفكاره الشريرة والمشاركة في مخططاته القمعية. وهكذا يبدأ الاحتيال أو التخطيط للأذى [7] ليتحول إلى نظام سخرة قاس يهدف إلى كسر الإسرائيليين وتحويل حياتهم إلى مرارة لا تحتمل [8].
الاستبداد غير منطقي وينقاد برؤية تقسم العالم إلى أضداد، بالخوف، وبشيطنة الآخر وتشييئه. ولو فلتت الضحية من خطط المستبد المُهلكة، فإن المستبد لا يستسلم بل يطور أساليب أكثر وحشية. كلما اضطهد المصريون الإسرائيليين، كانوا ينمون وينتشرون أكثر [9]. إن عدم منطقية خطط الفرعون الاستبدادية تظهر في أوامره البشعة بقتل مواليد الإسرائيليين الذكور. لو كان الفرعون فعلًا يخشى أن ينضم الإسرائيليون لعدو مفترض قد يهاجم مصر، فلماذا لم يطردهم في البداية من أرض مصر [10]؟ إن خوف الفرعون ليس من سيطرة الإسرائيليين على المصريين، بل من أن يهربوا من مصر. يبدو أن الفرعون كان يريدهم أن يستمروا للعمل بالسخرة في مشاريعه المعمارية والزراعية. ومع ذلك، لو أراد الاحتفاظ بهم كعمالة مُستعبدة، فلماذا يقوم بقتل الذكور من المواليد، الذين يشكلون قوة عمل مستقبلية؟ ربما تكون روايتا السخرة وقتل المواليد من مصدرين مختلفين، لكن القصتين، كما هما في النص الآن، تشكلان دلالة على عدم معقولية استبداد الفرعون. لا يوجد تفسير منطقي للاستبداد المستند على الخوف والتخوين وكراهية الآخر. لكن أساس خطة الفرعون لمحو الآخر هش، ولذلك كان مقدرًا لخططه أن تفشل.
مقاومة الاستبداد
وإذ يزداد الاستبداد عنفًا، مهددًا حياة المواليد الجدد من بني إسرائيل، تبدأ معالم المقاومة في الظهور مبشرة ببعض الأمل. تبدأ مقاومة الاستبداد [11] من حيث لم يتوقع، وبطريقة لم يتصورها ومن خلال أشخاص لم يعتبرهم أحد.
أمر الملك شفرة
وفوعة
، وهما قابلتان كانتا تساعدان نساء العبرانيين في الولادة، بأن تقتلا المواليد الذكور ويستبقيا الإناث. تُركت شخصية القابلتين مجهولة، ويحمل تاريخ التفسير آراءً مختلفة حول كونهما من العبرانيات أو المصريات. على أية حال، تجاهلت القابلتان أوامر الفرعون واستبقتا مواليد الذكور العبرانيين. ويوضح كاتب النص أنهما وضعتَا نفسيهما موضع الخطر بتحدي أوامر الملك لأنهما كانتا تخافان الله. وعندما واجه الملك القابلتين، أخبرتاه أن نساء العبرانيين لسن كنساء المصريين. بينما أراد الفرعون التأكيد على الاختلاف العرقي بين العبرانيين والمصريين ليمرر تصوره عن المقابلة بين “هم ونحن”، قامت القابلتان باستخدام نفس المقابلة لصد مخططاته. إن الاختلاف هنا هو مصدر للحياة، وليس للموت كما تصور الفرعون. إن تصورات الفرعون عن التفوق العرقي والجنسي تم إضعافها بقوة نساء العبرانيين وقابلاتهن.
بالإضافة إلى إضعاف دعاية الفرعون عن “نحن مقابل هم”، فإن قصة القابلتين تبين وجود مقاومة للاستبداد، وهما اللتان تسببتا في استمرار الحياة؛ لأن خوفهما من الله كان أعظم من خوفهما من الاستبداد أو من الخوف الذي يروجه المستبد [12]. لقد كافأ الله شجاعة وصلاح القابلتين [13]. هذا هو أول ذكر لله في سفر الخروج، وهكذا نرى أن الله يأخذ جانب الحياة وكرامة الإنسان، ويقف في صف من يدافعون عنهما. يأخذ الله صف المقهورين والمهمشين، ويتخذ موقفًا واضحًا ضد الأفكار القمعية ومن يروجون لها. من المثير أن نرى كيف ظهر الله في الصورة بسبب شجاعة نساء وقفن في وجه استبداد الملك. التحرير من القمع ليس مبادرة إلهية في هذا النص، بل بدأت المبادرة من عند الناس، متمثلة في القابلتين اللتين ساهمتا في ولادة هذه الحقيقة الجديدة.
في هذه الأثناء، ولد موسى، وتمت رعايته وحمايته. إن مقاومة الاستبداد في هذا المشهد تحدث على مستويات وطرق عدة. أحيانًا، تكون أمور الحياة العادية كالزواج وإنجاب الأطفال والاهتمام بالعائلة طرقًا للمقاومة. عندما يحاول الاستبداد التقليل من قيمة الحياة أو السعي لتفريق أفراد الأسرة الواحدة، فإن أحد سبل المقاومة البسيطة والفعالة هو أن نستمر في ممارسة حياتنا الطبيعية. الوجود فعل مقاومة. ونرى في هذا المشهد مقاربة مثيرة، فأم الصبي تستخدم نفس الوسيلة التي كانت من المفترض أن تكون أداة لقتل الأطفال العبرانيين، نهر النيل، لإنقاذ طفلها. هناك سياقات يمكن فيها، ببعض الحكمة والشجاعة، تحويل الأدوات المستخدمة في القمع للتغلب على قوة الموت.
لكن الخطر لا يزال محدقًا. فها هي ابنة الحاكم الذي أصدر حكم الموت تكتشف وجود الصبي! لكن تحولًا مدهشًا يحدث عندما تتعاطف ابنة الفرعون مع الطفل العبري. يتغلب التعاطف على الفروقات العرقية والاجتماعية التي تفصل بين ابنة الفرعون وهذا الطفل. وبدلًا من أن تلقي بالطفل في النهر تنفيذًا لأمر أبيها، تعمل بنصيحة أخت الصبي في أن تجد للصبي مرضعة (أم الطفل بالطبع).
عندما يُقوّي الاستبداد نفسه من خلال إثارة الخوف من المختلف عرقيًا، فإنه يمكن مقاومته من خلال أشخاص نافذين يتحدّون هذه الدعاية الاستبدادية القائمة على “نحن ضد هم”، ومن خلال متعاطفين من داخل معسكر المستبد يستخدمون قوتهم للعبور فوق هذه الحدود المصطنعة ليقفوا بجانب المستضعفين من خارج دائرتهم. ولم تكن ابنة الفرعون هي وحدها من عبر الحدود في هذه القصة، فقد قامت أم الصبي وأخته بمثل هذا العبور أيضًا، ممّا أدى إلى أن واحدًا من أعظم قادة العبرانيين تربّى في قصر الفرعون نفسه! إن هويّة موسى المزدوجة كعبراني مصري تنقض رؤية الفرعون القائمة على “نحن مقابل هم”. كما أن معاملة ابنة الفرعون الطيبة لموسى تُظهر أنه لم يكن كل المصريين قساة. فها هي مصرية من الطبقة الحاكمة تتحدى قسوة الملك المصري وتدافع عن الحياة والكرامة الإنسانية.
أخيرًا، بينما كان الفرعون يستهدف الذكور العبرانيين، ظنًا منه أن الإناث لن يقدرن على المقاومة، من المهم أن نلاحظ أن كل من عمل على مقاومة وحشيته كنّ من النساء: القابلتان، أم موسى وأخته، وابنة الفرعون وخادماتها. أظهرت هؤلاء النسوة، القادمات من خلفيات عرقية واجتماعية مختلفة، للفرعون (وتُظهرن لنا اليوم) أن النساء قويات، شجاعات، ومبدعات. لقد تغلبن على أحكام المستبد وقاومن الخوف بالفطنة، والحكمة، والتعاطف. ليتنا جميعًا نتبع مثالهنّ.