مع تطور إمكانات الذكاء الاصطناعي ودخولها لما يمكن أن نسميه مرحلة “لا يمكن إيقافها”، يكثر الحديث عن مستقبل البشر، وعن “الروبوت” وكيف حلّ مكان الإنسان في وظائف كثيرة. وهل يمكن للروبوت أن يحلّ مكان الإنسان ويسيطر على الكوكب بدلًا من البشر؟ أعتقد أننا سنعرف الإجابة في المستقبل القريب، وبأسرع مما نتخيل. لكن ما أود مناقشته هنا هو قيمة الإنسان الفرد، بالرغم من وجود التكنولوچيا أو قواعد محددة للعمل في عدة مجالات.

على سبيل المثال، رياضة كرة القدم تحولت من لُعبة يمارسها هواة إلى لعبة احترافية تهتم باللياقة البدنية والتدريب والاستشفاء، ثم تحولت إلى صناعة تجني المليارات. هنا، تحول التدريب إلى علم، والمدير الفني إلى مؤسسة يعاونه فريق عمل من محللي الأداء، والمساعدين وغيرهم. دخل الذكاء الاصطناعي في مراقبة تحركات اللاعبين داخل الملعب، وصارت هناك قياسات حديثة، وتحول اللاعبون إلى ماكينات. ومع ذلك، النجاح يحتاج إلى إنسان فرد واحد يؤمن به اللاعبون الذين تحولوا إلى آلات ليخرجوا أفضل ما عندهم لأجله. ولنا في المدرب الألماني يورجن كلوب مثال، فقد حصد مع فريق بروسيا دورتموند بعض البطولات في ألمانيا، وعندما انتقل إلى نادي في إنجلترا، أعاد لهم بطولة الدوري الإنجليزي بعد نحو 30 عامًا، كما أعاد لهم الحصول على دوري أبطال أوروبا بعد 15 عامًا. رأيي أن هذه الإنجازات حدثت لوجود شخص مثل كلوب، لديه رؤية وفلسفة خاصة للحياة، ظهرت في أحاديثه ومواقفه مع اللاعبين، الذين نجحوا معه ولأجله.

في عالم الطيران، تطورت صناعة الطائرات بشكل متسارع. يمكن للكمبيوتر والتقنيات الحديثة أن تقود الطائرات، وربما نستغني عن البشر في المستقبل. لكن في الحقيقة، ورغم كل هذا التطور، هناك أشخاص كانوا مدينين بحياتهم، حرفيًا، لنجاتهم من الموت، لكل من: الكابتن “تشيسلي سولنبرجر” ومساعده “چيفري زاسلو”، وطاقم مضيفات رحلة الخطوط الجوية US Airways رقم 1549، التي اصطدمت طيور بمحركي الطائرة الاثنين من طراز “إيرباص A320″، بعد ثوانٍ من إقلاعها من مطار لاجوارديا في نيويورك، صباح 15 يناير 2009. ولولا خبرة سولي وچيف، لما نجا 155 شخصًا من الغرق في نهر هدسون. فقد اعتمد سولي على خبرته وإحساسه بطائرته قبل الرجوع لكتيب الإرشادات، فأنقذ حياة ركابه وطاقمه معه. وبعد تحقيقات مطولة، تم إثبات أنه اتخذ أفضل خيار من بين كل الخيارات المتاحة.

نفس الأمر يمكن أن يُقال عن حادثة أخرى، فهناك أشخاص مدينون للكابتن طيار “ريتشارد دي كريسيبني” وفريقه، المسؤولين عن رحلة الخطوط الأسترالية “كانتاس 32” لطائرة من طراز “إيرباص 380”. ففي يوم 4 نوفمبر 2010، وخلال رحلة بين مطاري لندن هيثرو وسيدني، توقفت الطائرة في مطار شانجي في سنغافورة للتزود بالوقود بسبب طول المسافة. وعقب إقلاعها مرة أخرى، انفجر أحد محركاتها الأربعة من طراز رولز رايس. وتعامل ريتشارد وفريقه مع هذا الموقف بمنتهى الهدوء. وبعد أكثر من ساعة ونصف في الجو، تماسكوا وتعاملوا مع مشاكل أكبر طائرة نقل تجاري حجمًا، واتخذوا قرارهم بالعودة للمطار مرة أخرى، وهبطوا وفريقهم بسلام، ولم يتعرض أي شخص على متن الطائرة لأي إصابة.

في كل حادثة منهما، كان هناك شخص واحد هو الفارق بين الانهيار والموت أو التماسك والحفاظ على حياة الركاب. فرغم أنها طائرات حديثة يمكن أن تسير آليًا، إلا أن القرار كان بيد إنسان لديه خبرات متراكمة، ومشاعر، وسمات شخصية، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يؤدي مثلهم.

واحد من أعظم الفنانين، ورائد السينما الصامتة. ورغم تخليه عن الكلام كوسيلة من وسائل التعبير، فقد استطاع أن يقدم أفلامًا عبقرية مليئة بالمشاعر والرسائل، ومن بينها فيلم “الأزمنة الحديثة” الذي سخر فيه من سيطرة الآلة على البشر. ورغم معاناته الشخصية والألم الذي عاناه طوال حياته، فقد استطاع أن يرسم البسمة على أفواه ملايين البشر.

أعتقد أنه مهما تطور الذكاء الاصطناعي، فالحاجة إلى فرد/شخص تظل مُلحة. وتبقى الفردانية ليست مجرد فكرة في مواجهة من يقللون من قيمة الفرد لمصلحة المجموعة، بل هي طوق نجاة لكي يستمر البشر في المستقبل، وإلا سيكون البشر مجرد ذكرى من ذكريات هذا الكوكب.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

پيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان- ، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "" () لشبونة 2022.

‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎