اصلبه، اصلبه…
سريعًا، اصلبه، وأبعده عن العيون…
أخفِه، لا نحتمل رؤيته، فحين تقع أعيننا عليه تنفضح ذواتنا.
نراه مكسورًا، فنشعر بتشقق أرواحنا.
نراه مهانًا، فنرتجف من خزي ما خبأناه في قلوبنا.
اصلبه… لأن عُريه كشف عُرينا، وصمته فضح ضجيج قبحنا.
هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرّت به نفسي، [1]
لكنه لم يكن كما نُريد،
لا صورة له، ولا جَمال فنشتهيه. [2]
منظره كغُصنٍ يابس من أرضٍ عطشى…
لا بريق فيها، ولا ملامح تُريح العين.
فاصلبه، وأعرضه عنا… لا نريد أن نراه،
سترنا وجوهنا عن وجهه، واحتقرناه. [3]
اصلبه… لا تدعه يتكلم.
كلماته تُزلزل أرض كبريائنا،
وصمته؟ أكثر فزعًا…
صمته يُدين كلامنا، وعيناه تقرأ ما لا نجرؤ أن نبوح به. [4]
اصلبه… لأنه لم يُجامل خطايانا،
لم يُخففها، ولم يُسكنها… بل حملها.
ونحن ظننّاه مضروبًا من الله، لكنه كان مجروحًا لأجل معاصينا، مسحوقًا لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحُبره شُفينا. [5]
اصلبه… لأنه بلا خطيئة.
وهذا ما يُخيفنا.
لأن البرّ حين يقترب، يُحرق زيفنا،
ولأن النقاء حين يُصلب، يُعلن دنسنا.
كلنا كغنمٍ ضللنا… [6]
وهو؟
لم يضل،
لكنه مشي حيث نفرّ، مضى إلى الصليب، وألقى على كتفيه خطيئة الجميع. [7]
اصلبه… لا نريد أن نراه حيًا.
فحياته تُدين موتنا، ونوره يُفضح ظلامنا. [8]
جعله الربّ ذبيحة إثم، [9]
من أجلنا نحن الذين كنا ولم نَزَل نهتف: “اصلبه!”
لكنه –ويا للدهشة– شفَع ويشفع فينا، غفر ويغفر، [10]
أحبّ ومازال يُحب… حتى الموت. [11]
فماذا بعد؟
ماذا بعد أن صُلب؟ هل ارتحنا؟
هل أغمضنا أعيننا أخيرًا بعدما أُبعد وجهه عنّا؟
لكنه ما زال حاضرًا، في ضمير الأرض، وقلوب محبيه..
في صمت السماء التي شهدت المذبحة وسَكَتَت… لكنها لم تنسَ.
هو الذي صمت… وصمته دويّ المسكونة. هو الذي لم يفتح فاه… هو الكلمة [12] [13].
الكلمة التي لا تموت، التي تقف قارعة قلوب الذين طردوه، وتهمس: “من أجلك، سُكبتُ”. [14]
هوذا العبد الذي لم نُرِده، هو الربّ الذي لا نقدر أن نُفلت من ظله.
كلما صلبناه، قام. [15]
وكلما طردناه، عاد واقفًا في وسطنا، لا ليدين، بل ليُري الجراح، [16]
ويقول: “هذي لأجلكم.”
فلا تهرب بعد الآن من وجهه،
لأن وجهه صار مرآتك، وكلما أنكرته، أعلن هو أنك محبوب [17] [18].
فهل ستقبله مُخلّصًا من موتك المستحق؟ [19]
أم ستصرخ مرةً أخرى:
“اصلبه… اصلبه… أبعده عنّا”؟!
