الحقيقة ليست ترفًا فكريًا، ولا رفاهية نخبوية، ولا خطابًا يُنتقى حين نرغب في التنظير. إنها أساس النجاة، وبوصلة تقيم الاعوجاج، والجدار الأخير الذي إذا انهار، انهار كل شيء بعده.
لكن الحقيقة -بكل ما تحمله من قيمة وقداسة- لا تملك أثرًا في واقعٍ لا يريد أن يسمعها، ولا يملك شجاعة النظر في مرآتها. إنها لا تُثمر في بيئة ترفض التغيير، وتُؤثر المسكنات على الجراحة العميقة، وتُفضّل طمس العيون على فتحها، حتى لا تتذوق مرارة القُـبح، ولا تلامس فُجر المأساة.
ما دامت نوايانا لا تميل إلى الإصلاح، بل تكتفي بالتعايش مع الخراب بأقل الخسائر الممكنة، فستظل الحقيقة مقتولة، مُهانة، مُغتصبة، مُستغلة، مسلوبة، مقهورة، مسحوقة، مظلومة، ومصلوبة، وميتـة بلا قيامة على أسوار الإنكار واللامبالاة.
سنظل ندين الكذب… ونتبناه!
نلعن الظلام… ونختبئ فيه!
نصرخ في وجه الظلم… ثم نصافحه سرًا إذا طالنا نفعه!
نذرف دموعنا وقت المأساة… ثم نعود نرقّع الثوب ذاته القديم، رغم أنه لم يعد يستر لا خيبة، ولا حتى عورة، بدلًا من أن نستبدله بالجديد!
الحقيقة وحدها تملك القدرة على إعادة تشكيل الطريق، لكنها لا تفعل شيئًا ما لم نمنحها احترامنا وتقديرنا، ونملِّكها على كياننا الداخلي، ونجعلها ميزانًا نقيس به أعماقنا، ونفحص به دواخلنا، وننصاع لمقتضاها، ونتعرّى من أوهامنا، ونعترف أننا نهبط نحو الجحيم، لا نسقط في مجرد عثرات عابرة.
ولأن الحقيقة لا تنتصر في العلن إلا إذا انتصرت أولًا في أعماق كل فرد فينا، في ضميره، في قلبه، في قراره بأن يكفّ عن خداع نفسه وخداع من حوله، فهنا يُطرح السؤال: هل نملك هذه الشجاعة الآن؟ أن ينتصر الحق فينا!
قضية ياسين لم تنتهِ بعد، بل هي مرآة.
لم تنتهِ بالحكم الذي صدر سريعًا، ذاك الحكم المُحاط بسُحب كثيفة من الضباب. فالحقيقة فيها ما زالت مُحتجبة خلف شر وشهوة وكذب وشكاية!
مرآة كشفت ما هو أعمق: شعبٌ يثور بغضب في لحـظة وللحظة، يندفع بلا تمهّل، وينقسم بلا وعي، يخلط العدالة بالطائفية، والإنصاف بالانحياز.
مرآة كشفت عن نفوس مشحونة، وعنصرية موروثة، و خُطَب عامة ملغومة، مستعدة لتدمير الضحية والمتهم قبل أن يُنطق بالحكم عليه، وبالأكثر لأنه يختلف في الديانة أو الهُوِيَّة.
مرآة كشفت عن مسؤولين يتحدثون عن الحياد وهم في قلب التواطؤ، عن مؤسسات تُغلّف صمتها بالوقار، مع أنّ الحقيقة تُجهَض في وضح النهار.
مرآة كشفت أن كثيرًا مما نراه فوق السطح هو مجرد قشرة، وأن الأعماق ما زالت تعجّ بالصراعات الدفينة، والمساومات الرخيصة، والولاءات العمياء.
مرآة كشفت أن العدالة ليست مجرد حكم يصدر، بل اختبارٌ لقيمة الإنسان في هذا البلد: هل نراه كطفلٍ مكسور يجب إنقاذه؟ أم نراه ملفًا يجب إغلاقه؟
ورغم كل ما كُشف، فما زال الأكثر خطورة مخفيًا خلف الكواليس، في أرواح كل الأطراف، في صمت البعض، وتواطؤ البعض، وخوف الكثيرين. ونسيان الأكثرين الذي في حقيقته ليس تسامحا بل الهاءً إلى حين.
فهل أنتم، بكل طوائفكم، وأديانكم، ومراكزكم، ومواقفكم، مستعدون حقًا لأن تسلكوا بحقٍ الطريق بحثًا عن معرفة الحقيقة؟ بل، هل أنتم مستعدون لأن تسمحوا للحقيقة أن تعرفكم وتفحصكم بهدوء، أن تفتّش نواياكم ودوافعكم وأفكاركم، وتكشف ما فيها، ليخرج الكل إلى النور معًا؟
استجيبوا لها حين تطرق أبوابكم، دعوا الأبواب تُفتح أمامها، ولا تحموا الوهم والأكاذيب. وانصتوا إلى ندائها المتكرر، فالحقيقة لا تمانع أن تُسأل أو يتم التشكيك فيها، في حين الكذبة فلا تحب أن يتم تحديها
لأننا -كما كُتب- إنْ حَكَمنَا عَلَىْ أنْفُسِنَا، فَلَنْ يُحكَمَ عَلَيْنَ
ا. [1]