بين علم النفس Basic Trust والرجاء المسيحي
فعلى كلمتك أُلقي الشبكة(إنجيل لوقا 5: 5)
حسب الطب النفسي، فإن الخوف والقلق والاكتئاب كمظاهر لمتاعب الإنسان النفسية تزداد في بداية اليوم خاصة بعد الاستيقاظ من النوم Diurnal variation مقارنةً بنهاية اليوم. بالإضافة إلى التفسير البيولوجي لتغير إفرازات المخ خلال ساعات اليوم الـ24 فإن هناك عامل نفسي غير بيولوجي وهو ارتباط القلق بالخوف من المجهول unknown في كل يوم جديد، لذلك فإن الرجاء تظهر قيمته في حياة الإنسان عند مواجهة المجهول.
ولا يمكن أن تزول رهبة الإنسان من المجهول مهما كانت ثقته فيما لديه من إمكانات وقدرات خارجة يمكنه الاعتماد عليها، لأن الخوف يأتيه من داخله في حين خارجه لم تبد فيه تهديدات بَعد. لذلك فإن احتياج الإنسان ليس في التفكير فيما يملكه بل في الثقة فيما يملكه.
إننا نتعجب من حال إنسان ”مشرد“ في الشارع بلا مأوى في حين يتمتع بملء السلام، هذا الإنسان لا يقلق لأنه فقد التفكير، لذلك فإن السلام يبدأ في العقل وثقته ويقينه الذي يقنع النفس وقت الاضطراب.
الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أُظهِر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو(رسالة يوحنا اﻷولى 3: 2)
بالتأمل في هذه الآية، نجد أنها تشرح ما تقدم بوضوح، فهي لا تَدَّعي السيطرة على ما ستأتي به الأحداث، سواء كانت أحداث اليوم الجديد أو أحداث العمر كله أو أحداث ما بعد العمر كله، ومَن يستطيع هذا مهما كان ما يملكه؟
لذلك فإن فقدان التفكير كما في حالة المشردين، أو كما في انخراط الإنسان بسرعة في نشاطات يومه، وبالذات الروتينية ومن أهمها الارتباط بالعمل (وبالنسبة للمرأة بالذات مسؤوليتها الكونية نحو أطفالها وربما أسرتها)، تجعل التفكير في القلق يتراجع بمرور اليوم. ويسترد الإنسان ثقته في سيطرته على مجريات الأحداث بمرور ساعات النهار إلى أن يأتي الليل ليختبأ ويستريح الإنسان.
ولقد هيأ الخالق سبحانه للإنسان آلية نفسية تبدأ في التكون منذ ولادته لمجابهة هذا القلق من المجهول كل يوم الذي هو كفيل أن يقضي على الإنسان لو لم يوجد ما نسميه في الطب النفسي Basic Trust/ الثقة الأساسية في تكوين الإنسان النفسي، بحيث يثق البشر وبقدر متوازن من السلام ضد المخاطر بأن الأمور ستؤول إليىخير، أو ربما يتلاشى التفكير في المخاطر تدريجيًا بحيث لا تعود تشغله.
مثال لهذا: ربما لا أحد مِنا يراوده القلق عندما يقود سيارته بسرعة بسبب تفكيره أن المرور في الاتجاه المعاكس سوف يتجاوز الخط الأصفر في منتصف الطريق ويصطدم بسيارته
إن علاقة الطفل بأمه (أو من يؤدي دورها) هي أساس تكوين Basic Trust في الإنسان. وهي تبدأ بعلاقة جسدية حسية بينهما لتنمو بعد ذلك وتصير علاقة كيانية داخل الإنسان تحفظ اتزانه بتأصيل Basic Trust في عقله وفكره ومشاعره بدون وجود شخص الأم فيما بعد.
إن امتداد البحث عن أصول Basic Trust في الإنسان سيقودنا إلى أن أساساتها إلهية ترجع إلى خلق آدم وعلاقته بالله الخالق في الجنة، ومقدار الثقة التي انطبعت في كيان الإنسان واستمرت فيه بعد تغربه عن الله وخروجه من الفردوس (والكلام عن هذا يطول). ثم تكَّملَت في سيرة المسيح الله الذي ظهر في الجسد
[1].
باختصار فإن مرجعية Basic Trust هي مرجعية إلهية متأصلة في علاقة الله الأبوية بالإنسان، التي عندما جاء ”ملء الزمان“ استعلنها الله في ذاته للبشر بأنه سبحانه طبيعة لاهوتية واحدة، ذاتية الحياة في الروح القدس، ذاتية الأبوة في الله الآب، وذاتية البنوة في المسيح ابن الله. وهذه المرجعية الإلهية للـ Basic Trust لا توجد في تاريخ البشر إلا في استعلان الله لأبوته في خلق آدم واكتمال إعلان أبوته بظهور الله في الجسد بتجسد المسيح.
هذا هو أساس تفسير آية هذا المقال، المذكورة أعلاه من (رسالة يوحنا اﻷولى 3: 2)، فهذه الآية تكشف لنا عن أن علاقة الله الأبوية بنا منذ الخلق هي السبب الكوني والوجودي للـ Basic Trust أو رجاء الإنسان أمام كل ما هو مجهول بالنسبة لنا في الحاضر والمستقبل، و هو عبارة لأننا سنراه كما هو
.
ولو سأل أحد نفسه عن تعريف ”كما هو“ وما هو مرجع هذا التعريف، باختصار فإنه لا يجد في تاريخ البشر إجابة إلا سيرة أبينا آدم التي تكَّملَت في سيرة المسيح الله الذي ظهر في الجسد
.
فإن ما يجعل رجاء البشرية أكيد في الحاضر والمستقبل هو أنه سبق واختبره الإنسان كيانيًا ووجوديًا في العلاقة مع الله في آدم والمسيح نحن الذين قد سَبَقَ رجاؤنا في المسيح
[2].
فإن الرجاء المسيحي -على عكس رجاء البشر الذي يتنظرونه ليتحقق في المستقبل- فإن الرجاء المسيحي هو مستقبل مُعاش في الحاضر لأنه تحقق في الماضي. فالرجاء المسيحي هو شخص المسيح فينا بمجده ومجد أبيه والروح القدس المسيح فيكم رجاء المجد
. [3]
لذلك نجد أن الآية موضوع هذا المقال تغطي كل مساحة الزمن المخلوق Choros والزمن غير المخلوق Chronos:
سنراه كما هو
وتخص علاقتنا بالله في آدم والمسيح… الآن
، وتخص علاقتنا بالله في الحاضر… ما يُظهَر بَعد وماذا سنكون
وتخص علاقتنا بالله في المستقبل سواء غدًا أوالآبدية… لهذا نحن المسيحيون نبدأ يومنا بالرب واثقين وقائلين: على كلمتك أُلقي الشبكة
. [4]